بـقـلـم : بن بطوش
في إحدى قصص الكاتب اليمني “محمد مصطفى العمراني”، التي اختار لها عنوانأ لطيفا: “نحن و الحمير في المنعطف الخطير”، حكى هذا الأديب الرائع قصته الخاصة التي يقول فيها بأنه ينتمي لقرية كان أهلها إذا أرادوا جلب الماء أو أن أولادهم أرادوا الذهاب إلى المدرسة كان لابد لهم من العبور على ظهور الحمير من واد سحيق و خطر جدا، فكانت شدة انحداره تجعل العديد من الأطفال و الأهالي يسقطون فيه، و منهم من ينجوا و منهم من يهلك…، و بعد سنوات من المآسي و الفقدان، قرر كبار القرية أن يجتمعوا ليجدوا حلا لهذه المعضلة، و كان بين الحضور كاتبنا ،”محمد مصطفى”، فطرح سؤاله الكبير…، و هو الذي نجا في صغره بعد سقوطه بالوادي لمرات و مرات: “لماذا لا تسلكون طريقا غيره…؟”، ليسمع الجواب المُهلك و الغريب:”نحن نمشي وراء الحمير و هي من تسلك بنا ذلك المنعطف الخطير… !!“
فأي تشابه في الأحداث و الشخصيات بين ما جاء في قصة كاتبنا اليمني و بين ما يقوم به “الهنتاتة” في قيادتنا الصحراوية…، و ما قاموا به منذ نصف قرن فهو مَحضُ صُدفة، و نبرئ الحمير من التشبيه لأن ضحايا الحمير في القرية اليمنية أقل بكثير من ضحايا سياسة و مخططات و مكائد و غدر “هنتاتة” تنظيمنا السياسي…، ذلك أن الحمير تحركها الغريزة و الفطرة بينما “الهنتاتة” يحركهم الغدر و الخديعة و حب الإطباق على رقاب الأهل في أرض اللجوء.
و حتى نفهم الإسقاط فسنضطر لتحريف عنوان قصة كاتبنا اليمني، و نقول “نحن و الهنتاتة في المنعطف الخطير”؛ إذ يصادف هذا المقال إحياء الذكرى الـ52 لاندلاع الكفاح المسلح (20 ماي1973) و إطلاق شرارة الثورة الصحراوية التي خمدت و برد لهيبها، و لم تعد غير ذكرى نتحدث عنها و نحييها كما نحيي باقي ذكرياتنا الموجعة، ذلك أن “الهنتاتة” عبروا بنا مسالك تتعجب منها الحمير، و ورطونا في مصائب و معارك و صراعات و حروب ما كانت الحمير لتتورط فيها لو حكمت المخيمات عوضا عن “الهنتاتة”، لهذا صدقني أيها القارئ الكريم لو أن كاتبنا اليمني الجميل طرح سؤاله على الشعب الصحراوي، لأجابوه أننا كنا نمشي خلف “الهنتاتة”، و كنا نُؤمن بقراراتهم و هم من كانوا يورطوننا في هذه المصائب و لا يزالوا يفعلون.
ننطلق من قرار “حماس” المفاجئ و المترتب عن مفاوضات الدوحة، حيث أعلن قادتها عن استعدادهم إطلاق ما تبقى من الرهائن و تسليم غزة للسلطة الفلسطينية، و تقول المصادر أن “حماس” تعرضت لضغط مهول من طرف القطريين و المصريين من أجل القبول بشروط إسرائيل، و إخلاء غزة و تفكيك الكتائب و تسليم السلاح…، مقابل وقف العدوان و السماح للمساعدات الإنسانية بالدخول إلى القطاع المنكوب.
ما فعلته “حماس” و توريطها للشعب الفلسطيني في حرب ظالمة مع الجيش الإسرائيلي بغزة يكفينا لنفهم الدروس و نستخلص العبر، و يفرض علينا وضع منصة للمقارنات داخل صفحات التاريخ، حين كانت المقاومة في جبال الريف/ شمال المغرب، و هنا المقارنة ليست لتمجيد تاريخ العدو بل للعبرة فقط، يوم “محمد عبد الكريم الخطابي” وضع السلاح وقرر تسليم نفسه عندما لجأ التحالف الإسباني- الفرنسي إلى دك قرى الريف باستخدام سلاح الطيران و الأسلحة الكيماوية المحرمة دوليا، عندها قال “الخطابي” جملته الشهيرة: “لقد قررت تسليم نفسي و وضع السلاح حتى لا يُنفذ الإسبان و الفرنسيون مجازر انتقامية في حق السكان”، و هذا ما جعل التاريخ يُصنفه كأحد أذكى رجل المقاومة عبر التاريخ، لأنه كان يعرف بأن مقاتليه ليسوا بقوة خصمه المتفوق عددا و عدة و خبثا…، و كان رهانه و يقينه بأن خسارة معركة لا يعني خسارة الحرب و أن المقاومة ستستمر بأشكال أخرى.
سيُفتي بعض القراء بأن ضرب المثل لا يستقيم لأن يرتبط بتاريخ عدونا، و نحن هنا نقدم الدروس في التاريخ للعبرة و ليس للمزايدة، لأن ترجيح العقل في النوازل العظيمة يسبق المشاعر القومجية و المزايدات باسم العداوة و الوطنية، و الدواء يشرب على مرارته…، و كان من الذكاء لو أن “حماس” قبلت بخطة مصر و الأردن منذ البداية؛ لأن نصف هزيمة أفضل من خسارة كارثية و خراب يورث ضياعا للوطن، و “حماس” لم تستطع بعد سنتين من المواجهة أن توفر الحماية و الطعام و الكرامة لسكان غزة، و لم تستطع منع الكيان الغاصب من تنفيذ مجازر تجاوزت بشاعتها ما وقع في سربرينيتشا.
فأخطاء “حماس” تلقفها الأكراد الذين أبدوا مرونة عالية، و ذكاءا مرحليا في التصرف و في ردة الفعل، بعد خطاب الرئيس التركي “طيب رجب أردوغان”، الذي قال أن جيشه وضع خطة عسكرية لدفن الأكراد جنوب سوريا و أنها ستكون حربا بدون شفقة، بعد علمه أن “أحمد الشرع” يفكر في وضع ذروع من الأكراد جنوب سوريا بالاتفاق مع إسرائيل و سيتم منحهم حقوقا تقربهم من الحكم الذاتي، و أن المشروع مطروح على طاولة المفاوضات بين الوفدين الإسرائيلي و السوري المتواجد حاليا بدولة آسيوية…، و قرار الأكراد حل “حزب العمال” و تسليم السلاح بعد 40 سنة من القتال و المقاومة في “مؤتمر التخلي”، هو لأجل إظهار حسن النوايا للنظام التركي، بأن الأكراد لا ينوون تحويل الجنوب السوري إلى قواعد خلفية لمواجهة أنقرة بعنف أكبر، و أنهم استجابوا لنداء الزعيم الروحي للأكراد و المسجون في تركيا “عبد الله أوجلان”، الذي قال بأنه يريد الحفاض على العرق الكردي من الإبادة التركية، بعد علمه و اطلاعه أن ثمة خطة لإبادة الأكراد و منعهم من إقامة مشروعهم التاريخي، و أن تركيا تعتزم فعل ذلك مهما كلفها الأمر و قد حشدت الإمكانيات لتنفيذه، لكنه (أوجلان) يريد تعزيز السلام في المنطقة.
موقف “حزب العمال الكردي” مكن من تحقيق جزء مهم من مخططه دون الحاجة إلى إراقة المزيد من الدماء، بعد حصول الأكراد على مساحة للتجمع جنوب سوريا بمساعدة مباشرة من تل أبيب، و استطاع الحزب أيضا تجنب المواجهة مع القوة العسكرية و التكنولوجية لأنقرة و ربح المزيد من الوقت و انتظار المزيد من الفرص في المستقبل لانتزاع التنازلات، بعد أن أعلنوا أنهم سيتحولون إلى تشكيل سياسي داخل الدول الثلاث العراق و سوريا و تركيا و سيراهنون على نخبهم للوصول إلى مراكز القرار.
نعود إلى قضيتنا الصحراوية التي تجد نفسها أمام درسين؛ الأول من غزة حيث راهنت “حماس” على المواجهة إلى الرمق الأخيرة، و الثاني من تركيا حيث قرر الأكراد التأقلم مع الوضع الجديد، فـ “حماس” تسببت في واحدة من أكبر مجازر العصر الحديث، و هنا لا نسقط جرائم إسرائيل بل نكشف الجانب المظلم للمقاومة المسلحة، بينما الأكراد قرروا القبول بالأمر الواقع و الإيمان بأنهم لن يحققوا بالسلاح أي تقدم أمام التفوق التركي الكبير، و أن أذكى قرار هو العمل السياسي و التجمع في مكان آمن تحت نظام سياسي يشبه الحكم الذاتي…. و المخيف في قراءة البيت الأصفر المتهور، أن تكون لـ “الهنتاتة” قراءة ثالثة غير متوفرة في الخيارين السابقين، تتمثل في انتظارهم لقرار قصر المرادية و ما سيقرره صقور الجيش الجزائري كمصير للقضية الصحراوية، و هذا أمر يعيدنا إلى قصة كاتبنا اليمني الرائع، لأقول “نحن و البعير في المنعطف الأخير…دون أن نحصل على تقرير المصير”.
لإبداء ارائكم و مقترحاتكم
كما يمنكم متابعتنا عبر صفحتنا على الفايسبوك