بـقـلـم : بن بطوش
مقدمة هذا المقال نذرتها لرثاء شهداء الجيش الصحراوي الذين سقطوا و هم يحاولون الاقتراب من جذار الذل و العار، قبيل متم هذه السنة التي مرت علينا و كأنها دهر كامل، كانت أيامها طويلة كالعقود و أحداثها أثقلت صدورنا حتى جعلتها ضيقة كسمّ الخياط…، مرة أخرى السلاح الشيطاني “يعني” الذي حسم حرب “كراباخ” و قلب هزائم “إبي أحمد” ضد ثوار “تيغراي” إلى نصر ساحق، و جعل “حفتر” ينكص على عاقبيه في ليبيا…، هو اليوم يحصد أرواح المقاتلين الصحراويين، هي فقط “درون” واحدة متوحشة و لا تشبع من الدماء، تقاتل جيشا صحراويا بكامله دون رحمة و دون شفقة، و تمنعهم من ولوج الأراضي المحرمة التي تحولت إلى أرض تبتلع الأرواح و تتناثر عليها جثث شهداء القضية المتخلى عنهم…، “درون” واحدة بجهاز تحكم من مراكش أو من أكادير حولت ثورتنا بجيشها إلى نوادر تحكي في جلسات الشاي، و جعلت مقاتلينا يظهرون و كأنهم خرجوا لتوهم من حرب المغول و تورطوا دون سابق إنذار في حرب من الجيل الخامس…، رحم الله الشهداء الذين سقطوا خلال الأسبوعين الأخيرين من هذه السنة : “سلامة سيدي موسى” و “الحسنة الكيحل” و “الناجم محمود” و “سيدعم وحمة اليزيد” و “المحفوظ السالك دداي” و “ابراهيم محمد علي” و “الهيبة مرزوك مسيك” و “سلامة محمد ابراهيم”… و نسأله الشفاء للجرحى.
انتهت أخيرا الزيارة التي خص بها رئيس دولة موريتانيا الشقيقة “ولد الغزواني” مكة الثوار و قبلة الأحرار، و عقدت الندوة الصحفية المشتركة بين الرئيسين الجزائري و الموريتاني التي جاءت مختلفة و غير مشابهة لتلك التي تابعناها في تونس، حيث بدا الرئيس الجزائري متجهما و منشغلا بالتفكير، و هو يقرأ إعلان قصر المرادية خلال نهاية الزيارة أمام وسائل الإعلام الجزائرية… لم نرى نفس السعادة و الانشراح التي كان عليهما خلال زيارته لتونس، و لم نشاهد حفاوة في التغطية الإعلامية من القنوات الجزائرية، التي عتمت كثيرا على تفاصيل الزيارة، لدرجة ظن البعض أن ما بين الرجلين شقة تباعد بينهما، و أنها زيارة لم تصلح الجفاء الذي ورثته العلاقات بين الدولتين عن عصر الرئيس “محمد ولد عبد العزيز”، الذي أراد لوطنه أن يكون استثناءا في منطقة شمال إفريقيا…، فأغضبت مواقفه و خرجاته الإعلامية قصر المرادية في أكثر من مرة.
تلك الندوة و الإخراج الغريب لها و الحصيلة الهزيلة للزيارة، دفعتنا لتقييم آخر زيارتي دولة قادت زعماء دول إلى الجزائر، كانت إحداها هي ما نحن بصدد تفكيكه و تخص رئيس موريتانيا، و الثانية حدثت قبل أسابيع قليلة و تخص رئيس دولة إيطاليا حين حل ضيفا على بلاد الشهداء، سنحتاج لوضع الزيارتين على منصة المقارنات كي نحصل على أحكام قيمة لنوعية و جودة الاتفاقيات الموقعة بين البلدان، و لنفهم السر الذي يجعل زيارات الدولة إلى الجزائر من الرؤساء تبدو غريبة و شاحبة بعض الشيء و ينقصها الحماس السياسي، خصوصا و أن ثمة حديث، تناهت تسريباته إلى الحسابات المتتبعة للشأن الجزائري، تروج بأن رئيس دولة إفريقية وجهت إليه الدعوة من قصر المرادية، لأجل زيارة الجزائر و تسلم هبة مالية قيمتها 150 مليون دولار كمساعدات اقتصادية عينية، في وقت بدأ فيه الحديث عن عودة الجزائر إلى عصر دبلوماسية حقائب الدولارات.
ننطلق بداية من الموقف المثير للرئيسين أمام عدسات الكاميرات خلال الندوة الصحفية، حيث قرأ “تبون” خطابه بصوت غير متحمس و دون حوار أو ممازحة تعودنا عليها من القائد الأول لبلاد الثوار، و حتى حينما وصفه الرئيس الموريتاني بالأخ و الصديق لم يقم الرئيس الجزائري بالتفاتة المجاملة إليه و لم يبتسم له – كما هو معمول به في البروتوكولات الرئاسية- و كأن في نفسه شيء من الغضب…، فعزى الخبراء و العارفون بتفاصيل ما يجري من مياه بين الدولتين هذا البرود إلى تصريحات “ولد الغزواني” قبل سفره إلى الجزائر، حيث أنه بعد توصله من قصر المرادية بدعوة زيارة دولة، كان قد استدعى جريدة لبنانية أجرى معها حوار نقلته جريدة “الشروق” بكل تفاصيله، و أرسل “ولد الغزواني” عبر الصحيفة اللبنانية رسائل طمأنة إلى الرباط، رأى فيها قصر المرادية إشارات غير حميدة تسبق الزيارة، و كأن رجل شنقيط وضع شروطا و رسم خطوطا حمراء لا يمكن الوثوب عليها أو تجاهلها، و أضاف الرئيس الموريتاني في لقائه الصحفي أنه مستعد للوساطة بين الجارين إذا ما طلب منه ذلك.
و حسب المقربين من قصر المرادية فالزيارة لم تحقق التقارب المرجو بسبب رغبة “سعيد شنقريحة” في إغلاق معبر الكركرات من الجهة الموريتانية، ثم منع مرور الأنبوب النيجيري و تعويض ذلك بالغاز الجزائري، و هي الرغبة التي رفضها الرئيس الموريتاني لإرتباط المعبر بالأمن الغذائي للشعب الموريتاني، و ارتباط الأنبوب بالأهداف الاقتصادية المستقبلية لنواكشوط، فانتهت الزيارة بتوقيع اتفاقيات صورية فقط، تخص التعليم و التكوين المهني و إعادة إحياء و بعث الربط الطرقي البري بين الزويرات و تندوف على مستوى النقطة الكيلومترية 75، و معبر الشهيد “مصطفى بن بولعيد” الذي لم يحقق بعد الأهداف التي أنشئ لأجله
هذه ليست أول زيارة دولة تفشل في الجزائر، فقبلها كان الرئيس الإيطالي قد قام بزيارة إلى الجزائر، في الوقت الذي كانت فيه التوترات بين الرباط و الجزائر في أوجها و كان التقرير الأممي قد زاد من حدة الغضب لدى قائد الجيش الجزائري “شنقريحة” الذي عزم و تجهز للحرب، فظهر فجأة الرئيس الإيطالي كضيف كبير نزل بقصر المرادية دون أن تكون زيارته مبرمجة أو موضوعة على أجندة الرئاسة الجزائرية، و انتهت بتوقيع الرئيس الجزائري مع نظيره الإيطالي اتفاقيات بدت غريبة جدا، غرابة الهدية التي حصل عليها الرئيس الإيطالي من الرئيس “تبون”، حين منح بغلا على أنه حصان عربي نقي العرق، و كانت جل تلك الاتفاقيات تتعلق بالحفاظ على التراث و تبادل المشاورات في القضاء و التعليم قضايا الأسرة و المساواة و تبادل البعثات…، و لم نسمع أن إيطاليا أنشأت معمل نسيج واحد، أو مركز مؤسسة صناعية واحدة و لا استثمرت دولارا واحدا في الجزائر، و حيرتنا الغاية جعلت من رئيس إيطاليا يصل إلى بلاد الجزائر دون أن تكون له أجندة واضحة، و من غير أن يحضر معه أسطول وزرائه و لا رجال أعماله و لا ممثلين عن المؤسسات الصناعية الضخمة لبلاده، مع العلم أن منصب رئيس الدولة في ايطاليا ليست له سلطات كبيرة في البلاد.
ليتضح لنا فيما بعد، أن الرئيس الإيطالي كان مبعوثا عن الأوروبيين و الأمريكيين الذين أرسلوه لتهدئة الوضع داخل الجزائر، و تحذير كبير الجيش “شنقريحة” من أي مغامرة عسكرية قد يرد بها على مقتل المواطنين الجزائريين الثلاثة، في حادث احتراق الشاحنتين اللتان اتهمت الرباط بقصفهما، بعدما أجمع المتتبعون أن الحادث سيكون مدخلا لحرب لا تبقي و لا تذر بين الجارتين و ستجر جنوب أوروبا للفوضى.
ما وصلنا من معطيات عن زيارة “ولد الغزواني” إلى الجزائر، يكفينا لنحكم عليها بالفشل، خصوصا و أن الرئيس الموريتاني كان يتطلع للحصول على دعم اقتصادي يعزز فرص نجاح الإصلاحات التي يقودها الرجل ببلاده، و أن أخبارا الهبة المالية التي كانت ستحصل عليها دولة موريتانيا قد تبخرت بعدما رفض الرئيس الموريتاني مقايضة مواقفه مقابل منافع مادية أو عينية، و هذا الموقف يحسب للرجل رغم آثاره المضرة على قضيتنا، لصدقه في الدفاع عن حياد دولته و سعيه إلى إعادة بعث إتحاد يريده الحليف الجزائري منقوصا من الرباط.
لإبداء ارائكم و مقترحاتكم
كما يمنكم متابعتنا عبر صفحتنا على الفايسبوك