بـقـلـم:بن بطوش
كان مشهدا صادما تنخلع له الأفئدة و يشيب له الولدان…، إذ يصعب علينا التشافي نفسيا بعد مشاهدتنا لذلك المقطع الذي نشره أحد مقاتلي الجيش الصحراوي، ممن رافقوا البعثة الأممية “مينورصو” إلى الأراضي العازلة أين وجدوا ما أبلغهم به راعي إبل من الرُّحل الذي عثر على جثت متحللة لمقاتلين من الجيش الصحراوي تكاد تواريها رمال الصحراء … المقطع المصور من المقاتل الصحراوي أفجعنا و أظهر مدى جرم قيادتنا الهرمة و بطش المحتل المغربي، و يدفعنا للتساؤل عن السبب الذي يجعل قيادتنا تواصل التضحية بغرة شبابنا و هي تدفع بهم إلى أم المهالك بصدر عاري و دون حماية رغم علمها أنها لن تتساوى مع جيش الاحتلال؟ و التساؤل كذلك عن الجهة التي تريد القيادة إرضائها بمواصلة هذه الحرب الخاسرة و غير العادلة في موازين القوى؟…، و هل تعلم قيادتنا أن عدد الأرامل و الأيتام و العجزة العائدين من أم المهالك بعاهات و تشوهات تجاوز خمس سكان المخيمات… !!؟
تلك المشاهد التي شوهت قلوبنا و نحن نرى الأجساد متناثرة و متحللة و مهملة في العراء تتكفل الرياح بسترها بالأتربة و الرمال…، أحيت أوجاع ذاكرتنا و ما جرى سنة 1991 حين تلقت قيادتنا في الرابوني مراسلة من “الصليب الأحمر الدولي”، الذي توسط لدى الجزائر و سوريا و ليبيا و طالبهم بالتحرك، لاسترجاع جثت المقاتلين الذين شاركوا في الحرب إلى جانب جيشنا الصحراوي ضد جيش الاحتلال المغربي، و تفاجأ “الصليب الأحمر” بأن تلك الدول نفت بشكل قاطع الاعتراف بأن لها مقاتلين شاركوا في المعارك بالصحراء الغربية، رغم وجود بطائق هوياتهم، ليقرر المحتل المغربي دفن 6400 جثة في “واد سلوان” جنوب شرق السمارة المحتلة في مقبرة جماعية، و منح الأمم المتحدة أسماءهم و هوياتهم لتنعيهم لدى أسرهم ، بعدما تأكد أنهم ينتمون لـ 9 جنسيات غير صحراوية أو جزائرية…. كانت تلك الحادثة جزءا من ذاكرتنا المظلمة التي نراها تتكرر في عصر “الهنتاتة”.
نترك وجع الحرب و شهدائها الذين تنكر لهم البيت الأصفر المقهور….، و نفتح ملف ما يجري بين المحتل المغربي و المحتل السابق الإسباني، خصوصا و أن معركة كسر العظام بين مدريد و الرباط يبدو أنها انتهت لصالح الأخيرة التي أظهرت عنفا دبلوماسيا و سياسيا غير طبيعي مع حكومة “سانشيز”،… و كان الانطباع السائد أن العلاقات بين الجارين مربوطة بحبال الود، و تقودهما إلى شراكة عالية التماسك على جميع الأصعدة، لكن الواقع و المعطيات و ما تسرب من أخبار بين البلدين يؤكد أن الرباط ترفض الشراكة مع مدريد بالمنطق التقليدي الذي يبتلع فيه الطرف الأوروبي نظيره الشمال إفريقي …، و تطمح الرباط إلى إخضاع مدريد و إضعافها عبر عزلها عن الإتحاد الأوربي و باقي التكتلات التي تستمد منها إسبانيا قوتها السياسية.
فثمة من سيرى في هذا الكلام مجرد استنتاج تهويلي لتضخيم صورة العدو الكلاسيكي، و فيها الكثير من التعظيم المزيف للمحتل المغربي، و أيضا ثمة من سيراها نظرة متشائمة عن مستقبل القضية الصحراوية إقليميا و دوليا، و أن تحليلنا لما يجري من أخبار بين البلدين نستقيه من الزاوية السوداوية لتطور الأحداث…، لكن مع تجميع المعطيات و تركيب صورتها إلى جانب التسريبات، سيتضح لك أيها القارئ بأن النظام المخزني فعلا نجح في عزل إسبانيا عن محيطها الأوروبي، و ضمها إلى محوره لتخدم أجندته بشكل كامل و دون مساومة… و كأن إسبانيا هي من كانت مستعمَرة سابقة له و ليس العكس.
فخلال هذا الأسبوع أعلن وزير الداخلية الإسباني، “فيرناندو غرانديمارلاسكا”، عبر جريدة “EL MUNDO” بأن الداخلية الإسبانية تستعد لعملية “مرحبا 2024” بجدية كبيرة، و أن الموانئ الإسبانية ستكون المفضلة للمغاربة في أوروبا للعبور إلى بلادهم، و استرسل أن السلطات الإسبانية سوف تسهل تنقل المغاربة و تسهر على راحتهم أثناء تواجدهم داخل التراب الإسباني…، و هو التصريح الذي أغضب المعارضة الإسبانية و اعتبرته محاولة تذلُّل و تمسُّح و استعطاف للرباط، و كأن الإسبان يخشون غضب المهاجرين المغاربة، و فزعون من غضب النظام المغربي… و قال اليسار الإسباني أن هذا التودد المبالغ فيه و البحث الكبير عن راحة العابرين المغاربة فيه إهانة لكرامة المواطن الإسباني !!.
ما تفجر من نقاش داخل إسبانيا بين الكيانات السياسية المعارضة و الحكومة المدريدية، لا تعود أسبابه إلى التصريح الذي أدلى به وزير الخارجية الإسباني، بل إلى ما يحصل من تطور للعلاقات بشكل صامت، لأن الرباط رفضت مناقشة ملف الحدود البحرية بمعزل عن مصير مدينتي سبتة و مليلية، و مدريد تقدمت بطلب إلى الاتحاد الأوروبي و آخر إلى حلف “الناتو” لضم المدينتين إلى الاتفاقيات الدفاعية، لكن الاتحاد الأوروبي رفض قطع شعرة معاوية مع الرباط و تجاهل الطلب حتى أنه لم يرد على حكومة “سانشيز”، و أمريكا ضغطت على حلف “الناتو” و أفشلت التصويت لصالح ضم المدينتين إلى مجال تحرك جيوش الحلف، مما وضع إسبانيا في مأزق حقيقي و جعل الرباط تنظر إلى حركة مدريد بأنها طعنة غدر.
و بمجرد ما سرب الإعلام الفرنسي أن الاتحاد الأوروبي و حلف “الناتو” رفضا مطالب إسبانيا بخصوص المدينتين، الواقعتين شمال المغرب، تحركت الرباط و عمدت إلى القيام بتمارين عسكرية بالقرب من المدينتين، مع فيالق بريطانية من جبل طارق، و كان التمرين محاكاة لصد هجوم كيماوي و بيولوجي، و هو ما رد عليه الإعلام الإسباني بأن التمرين العسكري فيه رسائل إلى إسبانيا، و بأن الرباط تعلم كون الجزائر ليست لها القدرة على الحرب البيولوجية، و هذا ما أكده التقرير الفرنسي الذي نشرته المخابرات الفرنسية على موقع LEXPRESS.FR، و بالتالي فمقاصد التمرين تقول بأن الرباط لا تستبعد وقوع حرب مع إسبانيا بسبب المدينتين، و سبق للإسبان أن هاجموا إبان حرب الريف المجاهدين المغاربة بأسلحة كيماوية و بيولوجية، و التمرين فيه تذكير بأن الجيش المغربي تطور كثيرا و أنه مستعد لهذه الحرب و لا يخشى التحالفات الإسبانية.
مباشرة بعد تسرب هذه المعطيات إلى الإعلام، نشرت وكالة “إيفي” الإسبانية خبرا يفيد بأن “ميراف ميخائيلي”، الامين العام لحزب العمال الاسرائيلي اليساري، سيبرمج جلسة نقاش لموضوع سبتة و مليلية و الجزر الجعفرية في الكنيست الإسرائيلي، من أجل إصدار مشروع قرار يعتبر السيطرة الإسبانية على المدينتين و الجزر احتلالا …
و لاحتواء الأزمة، و حتى لا تنزلق الأمور بعيدا عن الدبلوماسية و الاتفاقيات الموقعة، دفع رئيس الحكومة الإسباني “سانشيز” بوزير خارجيته، “الفاريس” للقيام بخرجة إعلامية – بحر هذا الأسبوع- قال فيها بما يشبه التراجع خطوة إلى الوراء: “لدينا تفاهمات عميقة مع المملكة المغربية و نعتبر الحكم الذاتي هو الحل الوحيد المناسب لقضية الصحراء…، لا شك ان هناك نقاط خلاف مع المملكة المغربية، لكننا نركز حاليا حول ما يجمعنا معهم، نريد الهدوء و التعاون بين المملكتين الجارتين كما نريد السلام الدائم للشعبين”…. رد “الفاريس”على ما يجري بشأن المدينتين خيب آمال الرأي العام الإسباني و أحزاب اليسار، الذين اعتبروه اعتذارا مبطنا للرباط على التحركات الفاشلة من مدريد لإدخال المدينتين ضمن مجال الأوفاق الحربية مع التكتلات التي تنتمي إليها إسبانيا.
و زاد من إحساس الإسبان بخيبة الأمل مع عدم تلقي “ألفاريس” لأي اتصال من الخارجية المغربية أو أي مسؤول في الرباط يشكره على التصريح، بل جاء الرد مرة أخرى من الإعلام الفرنسي الذي سرب عن قصد خبر بدء شركات الصناعات العسكرية بناء وحداتها في المغرب، لإنتاج الأسلحة و نشرت أسماء الشركات و جنسايتها، و هم: الشركة الهندية TATA ADVANCED SYSTEMS، و التركية ASELSAN لصناعة الإلكترونيات الحربية، و الاسرائيلية IAI وELBIT SYSTEME ، والشركات الصينية HARBIN لصناعة الطائرات، و CHEMCHINA و HONGDU AVIATION INDUSTRY GROUP، و شركات أخرى كورية و برازيلية و تشيكية و أوكرانية مجهولة العلامة، متخصصة في صناعة الذخيرة و العتاد القتالي.
ما جاء في الإعلام الفرنسي تأكد في الاجتماع الوزاري الذي ترأسه ملك المغرب في الرباط، بعد يوم واحد من نشر تقارير الإعلام الفرنسي، و الذي أقر بأن الرباط أحدثت منطقتين للتسريع الصناعي العسكري، و استخدام مصطلح “التسريع”، يعني أن الرباط تأخذ الأمور على محمل الجد، و ترفض أن تكون تحت رحمة البائعين الدوليين و مهتمة بتحقيق أمنها الصناعي العسكري، و أن الرباط لا تستبعد الوصول إلى نقطة الخلاف المطلق مع الإسبان، و منذ إعلان إحداث منطقتين للتسريع الصناعي العسكري بدولة الاحتلال، و الإعلام الرسمي و معه الحكومة الإسبانية صامتان و لا يحركان أي ساكن، حتى لا تقرأ أي خرجة أو تعليق إسباني على أنه سلوك عدواني تجاه مخططات المغرب، و قال أحد الخبراء الإسبان أن مدريد حاولت منع تأسيس الرباط لصناعات دفاعية، لكنها فشلت، و كان آخر فشل لها هو عجزها عن ثني المجموعة الأمريكية Pratt & Whitney عن إقامة أكبر مصنع خارج أمريكا بمدينة الدار البيضاء، و الذي سيتخصص في صناعة محركات الطائرات الأمريكية المدنية و العسكرية،و سينتج أجزاءا من طائرات F-35، كان مقررا إنتاجها في تركيا.
لإبداء ارائكم و مقترحاتكم
كما يمنكم متابعتنا عبر صفحتنا على الفايسبوك