كان نَيْرُ اليُتم الثقيل أول ما كبّل يدي أحلامها الطفولية عند فجر الصبا، مرت أيّامها لاهثة تبتلعها لعنة والديها الغارقين في ظلام الذكرى، و قد سيّج الحزن رساتيق الفرح في قلبها بأسلاكه الشائكة حتى خنقها، علمها ذلك الحزن أن الصمت أبلغ من الدمع، و أن الموت ليس آخر الخسارات… علمها أنه ثمة لحظة بين الإنسان و القدر تفيض فيها الحقيقة من الجراح و تجعل الإنسان يتعرف فيها على نفسه، أكان حقا يعيش طاهرا ؟ أم أنه مثل الجميع .. يحمل جينات ملوثة؟
ذات ابتسامة بريئة زينت شفتها يوما و هي قلما تبتسم، كانت تتأمل النساء يرقصن أمامها في حفل، جلست ترى الخصور و الأرداف المكتنزة تتمايل على أنغام الطبل الذي يُجلد من أجل الفرح، أفلتت في لحظة من أعين اليتم التي ترقبها، غير أن يدا امتدت إليها و سحبتها خارج الخيمة، وجَعَلَ صاحب اليد يتعوذ منها بعبارات تدفع النّحس، كانت والدتها بالتبني تجلس بين النساء داخل الخيمة حيث يقام حفل الزفاف، و رأت أن “البتول” قد أُخْرِجَت فلم يهتز لها جفن.
عادت إلى خيمتها تجر خلفها سعادتها المكسورة الساقين، لم يُشْعِرْهَا ما حدث بالغبن، طفلة غيرها في بدايات عقدها الثاني، كانت لتشهق باكية حتى ترتجف الأرض تحت قدميها.. جلست وحدها في صمت الخيمة تبحث عن ابتسامة شاردة بين صور مجلة إسبانية تتزاحم فيها الوجوه و الأجساد شبه العارية مع الكتابات التجارية، إلى أن خالطت غفوة سواد عينيها و أردتها على جنبها الأيمن كملاك مذلل في النعيم، فأحست بأنامل ناعمة كمشاعر الغروب، تغوص بين خصلات شعرها الدافق على نحرها بسواد منير، و دنى من أدنها اليسرى ظل زكي الأنفاس، ثم همس لها يقول :
يا ماء عيني و دماء قلبي و روح جسدي ..
يا شمس تندوف الحزينة، و صبحها المختنق ..
يا ذات الشفقة الناظرة إلى الوجوه، و جليسة الحزن الساكن في شعاب النفوس.
يا نديمة الرزايا، و يا مندوفة بالمنايا
أقبلي بخديك الضامرتين إلى شفتاي
فقلبك في خمص من نور و جسدك في وجع و فتور..
يا نسل الأجداد، قد سقوك الحزن الجاري في جداول الخطايا أقداحا،
و أنا أسقيك رشفة الفرح من كوثر النور.
ثم انحنى الظل على خدها مقبلا، و رفع رأسه و قد لحق به كل الحزن القابض على فرحها في سحابة سوداء كأنه سحر عظيم، فأدبر الظل و لحق به الحزن منكسرا و منقادا إلى الزوال..
فتحت “البتول” عينيها بدلال، تنظر الباب، و ليست تعلم أكان حلما، أم أن ثمة حقا ظلال تسافر كأنبياء الفرح، لتنشر دين السعادة و الجمال، و تغرس أوتادها في صدر الكمد.
حتى و إن كان حلما فما أجمله من حلم، و حبذا لو أنه يداهم المكروبين في خلواتهم، و الموجوعين في شرودهم، و المنسحقين في ظلماتهم، و يهديهم قبله تشفى نفوسهم المتألمة.
قارب صيف عام 1992 على ترك تندوف، و للصيف في هناك قصص من الفوضى، لكن هذا الصيف كان مختلفا، لأن الأمم المتحدة نجحت، قبل سنة (1991)، في إيقاف الصراع المسلح بين مقاتلي الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء و و وادي الذهب (البوليساريو) و بين قوات الجيش الملكي المغربي، أحس الصحراويين و هم في أرض اللجوء ببعض الأمن أخيرا، قلما كان يمر عليهم شهر دون أن يدفنوا جثت شهدائهم، أو جثت المقاتلين القادمين من مالي او من موريتانيا او دول أخرى من جنوب الصحراء الكبرى، كان هؤلاء الأفارقة قد وجدوا في حرب الصحراء مصدر دخل لعائلاتهم مدفوعة من نظام الرئيس الليبي “معمر القذافي”، غير أن اعلان وقف اطلاق النار برعاية الامم المتحدة، و دخول بعثة “المينورصو” الى المنطقة، جعل المقاتلين الصحراويين يدخلون مرحلة الفراغ القاسي، الذي حولتهم مع مرور السنين إلى مهربين و مرتزقة في حروب لا تخصهم، فيما أصبح الأفارقة يشكلون أوزان زائدة بمخيمات تندوف يتزاحمون مع اللاجئين الصحراويين في اقتسام المساعدات الغذائية الدولية.
في هذه الأثناء كانت دولة الجزائر تعيش غليانا سياسيا، بسبب قرار المؤسسة العسكرية إلغاء نتائج الانتخابات البرلمانية التي عرفت فوز “الجبهة الاسلامية للإنقاذ”، و دفعت برئيس البلاد “شادلي بن جديد” الى اعلان استقالته، فانقلبت الأوضع إلى فوضى، و انتقلت السلطة الى يد المجلس الأعلى الذي كان تحت سيطرة الجنرال “خالد نزار” وزير الدفاع، لتتلبد سماء البلاد لسنوات بسحب العنف التي أمطرت الدماء و الدموع.. هذه الحقبة تعرف اليوم عند الجزائريين بالعشرية السوداء.
ما قام به الجنرالات في الجزائر خلال هذه الأزمة، كان يبدو في الوهلة الأولى مغامرة غير محسوبة النتائج، لكن سرعان ما توضح المشهد، لتتبين بأنها كانت فتنة عظمى، خَطَّطَ لها بإحكام،…. ما حدث جعل الشعب الجزائري يشعر بأن وطنهم لم يحصل بعد على استقلاله، و ان فرنسا لا تزال تجثم على قلوبهم، خرجت فرنسا العسكرية و بقيت فرنسا السياسية، حتى الهواء الذي يتنفسه الشعب أصبحت تأخذ أرباحها منه، لقد أخافها كثيرا وصول “جبهة الإنقاذ” إلى الحكم، لأن شعار الجبهة خلال الحملة ركز على تعديل الدستور و إعادة الجزائر إلى الجزائريين، لهذا تم حل الجبهة و أعلنت حركة مارقة، و اعتقل الآلاف من أتباعها بتهم الإرهاب و وفر من نجا بجلده الى الجبال.
و لكي يكمل الجنرال “نزار”، مهندس عملية إلغاء نتائج الانتخابات ، مخططه كان لزاما عليه اضافة القطعة الأخيرة، إذ كان مخطط تقسيم الجزائر بين الجنرالات و الشركات، وراء كل هذه الفوضى التي تورط فيها العسكر، و أخيرا لم يبقى للجيش غير خطوة إقناع الجميع أن ما فعلوه أملته الضرورة، إذ جعلوا يطلقون الأيادي السوداء لتقطع رقاب الشعب و تعاقبهم على اختيارهم لجبهة الانقاذ، و غرقت الجزائر في بحر من الدم لأزيد من اثني عشر سنة، و كانت أصابع الاتهام تلاحق من بقي في جبهة التحرير بدعوى التحريض على الإرهاب و ممارسته، و كأن قدر هذا الوطن أن يقدم في كل قرن دماء المساكين الذين أحبوه لإطفاء نار الغضب الامبريالي.
بعد سنوات خرج بعض ضباط جهاز الإستعلام DRS يعترفون أن إلغاء نتائج الانتخابات كان خطأ تاريخيا، و أن أيديهم تلطخت بدماء الأبرياء الذين وجدوا أنفسهم ضحايا، ذنبهم الوحيد في ذلك أنهم جزائريون، أظهر هؤلاء الضباط استعدادهم لتقديم شهادات أمام القضاء تحمل الجيش وزر ما أريق من دماء.
و اليوم تصف “البتول” في مذكراتها التي تركتها وراءها بشاعة تلك العشرية السوداء التي سالت فيها دماء الجزائريين، كانت حينذاك بين ظهرانيهم بينهم و رأت الموت أكثر من مرة يعبر الطريق أمامها، لا تزال تلك الكتابات التي دونتها عما رأته تقطر دما ساخنا و لا تزال الجراح التي رأتها، مفتوحة و ترفض أن تندمل.
فبعد أن وجدت اسمها في لائحة المتوجهين للدراسة بالجزائر للموسم الدراسي 1992- 1993 لم تسعها الدنيا فرحا، على الأقل هي لن تذهب إلى جزيرة الشباب بكوبا، حيث التدريب العسكري و لن تشتغل هناك في حقول قصب السكر، كانت لحظة صعودها للشاحنة التي أقلتها رفقة أقرانها مؤلمة جدا، حضر جميع الآباء و الأمهات لتوديع فلذات أكبادهم، و لم يحضر أحد من أجلها، لم تكن تشعر قبل تلك اللحظة باليتم.. عانقت رزمة ملابسها و جلست القرفصاء في عمق الشاحنة و ظهرها إلى الهيكل و عينيها شاخصتين، ترى الآباء وسط الغبار يلاحقون الشاحنة المتحركة، و هم يلقون بدعواتهم و وصاياهم إلى أبنائهم و بناتهم.
– تقول “البتول” في صفحات مذكراتها و هي تصف الرحلة:
كانت الشاحنة العسكرية تعاني تأثيرات الزمن، صوت محركها المنهك يجعلك تشعر أنه يبدل جهدا أكبر من قدرته لتحريك خردة المعادن الجاثمة على رأسه، أما نحن فكنا نتزاحم فوق ظهرها مع صناديق المؤونة، مددت قدميّ و توسدت رزمة ملابسي و بدأت أفكر في أمي، لو أنها موجودة ما كانت لتتركني هكذا، لربما بكت لفرط حبها لي و لحطمت أضلعي بضمّات حضنها، و لكان بين يدي الآن طبق الأرز الذي أحبه … ماذا عن والدي لو لم يُقتل، لكان هو الآخر قد أحضر لي حقيبة مثل الجميع عوضا عن هذه الرزمة البائسة، التي تزيد ملابسي رداءة، بقيت أتخيل وجه أمي الملائكي، فابتسمت، ثم انزلقت دمعة غادرة من عيني، لم أكن أعرف قبلها أن الإنسان يمكنه أن يبتسم حزنا.. لكن شيئا في عمقي تملكني بغضب عظيم و أحسست معه بالرغبة في البكاء و الصراخ و تمزيق كل ما تصله يدي … فما أصعب اليتم بين اللئام.
انطلقت الشاحنة تعبر بنا الصحراء و حيثما أشحت بوجهي لا أرى غير الحجر و الرمال الصفراء التي تؤدي العين و تؤلم الروح، أما مخيم “27 فبراير” حيث تجمعنا للانطلاق.. فبدأ يصغر أمامي كلما ابتعدنا عنه، لحظات السفر الأولى تركت في نفسي كثيرا من الفضول الذي شغلني عن لهيب الشمس المتدفق فوق جسدي الهزيل، خشيت على بشرتي البيضاء أن تلعقها ألسنة الحر الشديد فَتُشْرِبُهَا بالسمرة، مددت يدي أغطي كل أطرافي و لم أبقي إلا على عيني، كان الأطفال من حولي قد بدءوا يكشفون عن أسرارهم المدسوسة في سواد الحقائب، أغلبهم أخرج وجبة الخبز المثقل بالأرز، مشفوعة بقنينة من الحليب، تلك الوجبة تعني الكثير لأطفال تندوف، فمنتهى الدلال أن تحصل على غداء من خارج المساعدات و ليس فيه مصبرات.. فماذا لو أنه الأرز الأسيوي و حليب النوق؟
هي المرة الأولى التي أترك فيها تندوف، كنت قد سمعت الكثير عن أوطان متوحشة العظمة من الذين يعودون مثقلين بالعلم و الشواهد المغبونة، كانوا يسردون على مسامعنا بفخر مجروح حكايات تشردهم بكوبا و ليبيا و الجزائر، الآن أشعر أنني سائرة لأنظم إلى هذا الجيش من علماء الرابوني المنكوبين، حتما سأعود يوما إلى المخيمات و لا أظنني سأحكي مثلهم حكايتي، لأننا لسنا متساوون في القدر، و لا في حجم الجراح و الآلام، و لا حتى في تكاليف النضج الباهظة، ببساطة… يحق لي أن أحتفظ بقصتي لنفسي حتى يبقى للوطن و القضية معنى من بعدي.
بقلم : ثائر على الثورة
إبداء ارائكم و مقترحاتكم
كما يمنكم متابعتنا عبر صفحتنا على الفايسبوك