“ماذا يستطيع الشجر أن يفعل ضد وطن يضمر حريقا لكل من ينتسب إليه ؟” (أحلام مستغانمي)… تركت “البتول” كثيرا من الأسرار المبهمة المكتوبة بألوان الكمد على جدران الليل بمخيمات تندوف، كأنها طلاسم خرجت من بين مسائل كتاب شمس المعارف الكبرى، هي أعقد في فهمها من تراكيب القدر الذي يهوي بشموليته على قواعد الوجود و التجلي ليصنع قناعات البشر، التي جعلت أسرارها تفيض كغضب فضي يخطف الأبصار بلمعان معانيه و هو يهمس بالوجع و الترفع في أذن مجتمع البيضان .. فكم كان مفجعا رؤية ما حوته جيوبها من حكايات، نثرت كما البذور التي تنبت هموم و أحزان الأوطان..
فقد أخبرتنا تلك الأسرار أن المسكينة ولدت مبتورة من والديها في السنوات الأولى للجوء بتندوف، شربت كأس اليتم صغيرة، بعد أن قتل والدها، و هي لا تزال مضغة في الأحشاء لم تكد بعد ترى النور… ثم اختفت والدتها في ظروف غامضة و تركتها للنسيان..
ذات ليل حزين من ليالي سنة 1980، عندما همّ والدها بالتسلل خلسة، خرج غاضبا ينوي ترك تندوف بعد خلافه مع ضابط جزائري، كان قد حضر ليملي على القادة الصحراويين برنامج العمل النضالي ضد العدو المغربي، غير أنه كان كثير الاعتراض على أسلوب الجزائريين المتسلط، فبعد مقتل “الوالي مصطفى السيد”، في شهر يونيو من سنة 1976، بعد معركة نواكشوط، أدرك قادة الثورة الصحراوية أن فكرة اللجوء إلى تندوف كانت أكبر خطأ ارتكبوه في بحثهم عن تحرير ارض الساقية الحمراء و وادي الذهب، لقد أحسوا بأن النظام الجزائري استدرجهم ليكونوا ورقته الرابحة في لعبة قمار جيواستراتيجي مع المغرب، غير أن هذا الإدراك و الوعي السياسي جاء متأخرا، بعدما تمكنت الجزائر، بقيادة “بومدين” من التحكم في مفاصل القضية الصحراوية و عملت على التخلص من “الكاريزمات” القيادية او تدجين بعضهم بأساليب أخرى، و هكذا منحت قيادة التنظيم لـ “احمتو”، الذي اصبح يعرف بلقب “محمد عبد العزيز”، مع ان هذا الاخير لم يكن من الأسماء الكبيرة التي خططت لثورة “20 ماي”، و لم يَعْجِب او يقنع يوما “الوالي مصطفى السيد،”، مفجر الثورة، فجأة وجد نفسه قائدا للثورة الصحراوية، بعدما تزوج من ابنة ضابط جزائري، و هي “خديجة حمدي”.
بعد مقتل “الوالي مصطفي السيد” في ظروف غامضة، يوم 06 يونيو 1979، و ليس يوم 09 يونيو كما هو متعارف عليه، على يد أحد خدام الجنرالات الجزائريين بعد إغارته على العاصمة الموريتانية، في عملية عرفت لاحقا بعملية “الإحتواء” ، أصبح الجميع متوجسا و أدرك المقربون من الشهيد الولي أن القضية التي يناضلون من أجلها ، باتت بالنسبة للنظام الجزائري أكبر من قضية مساعدة شعب جار و شقيق، و دعم لمبدأ تقرير مصير الشعوب، فجراح حرب الرمال لسنة 1963 لم تندمل في قلوب القادة الجزائريين ..
بعد هذا الوضع الذي أطل على الصحراويين من حيث لا يشتهون، أدرك الجميع أن قضيتهم بدأت تتجاوزهم، و أن اليأس بدأ يتسلل إلى النفوس و حتى الكلام الذي كان يردده المقربون من حكام الرابوني الجدد، كان يؤكد أن القضية الصحراوية أصبحت العمود الفقري لجزائر الثوار، جزائر بومدين، تحكموا في مفاصلها و عبثوا بأحلام شعبها و أرادوا لهم فقط ان يلعبوا دور الحصى في حذاء الرباط ..
و تتردد بض الحكايات على أن “الولي مصطفى السيد” همس الى أحد مقربيه في ليلة من ليلالي تندوف، قبيل موته بأيام: “أظنني جنيت على شعبي…” و كذلك فعل.. لقد أصبح القتل خلال سنوات الحرب لغة السلطة في مخيمات تندوف، ضد كل من رقَّ قلبه أو رفض حمل السلاح ضد المغرب .. مخيمات تندوف اليوم ما زالت تحتفظ بالكثير من ذكريات الدو و الحديد، و فيها فقط يمكنك أن ترى قاتلا أو جلادا على هرم السلطة يرغدون في طغيانهم بين الجوعى و المقهورين باسم الوطن الذي يسكنهم و لم يسبق لأحد منهم أن سكنه…
* * *
خرج “محمد ولد بِّيه الركيبي” – والد “”البتول””- يتحسس الطريق في عتمة ليلٍ غير مقمر، قاده القدر لأزيد من سبعة كيلومترات، و كان لزاما عليه إيجاد وسيلة للنقل حتى لا تدركه شمس الصباح و يفتضح أمره، لأنهم في وضع حرب و الفرار من المخيمات جريمة و خيانة لا تغتفر.
ظل يمشي إلى أن سمع صوت سيارة تسير دون أضواء في ذات المسار الذي يمشي عليه، لكن “محمد ولد بيه” بقي وجلا، فإما أنها للجنود الذين يخشون استخدام أضواء السيارة حتى لا يرصدهم وحدات الجيش المغربي و يقصفهم، وهم في دورية يمسحون المكان لعلهم يعثرون على هارب من تندوف، أو أنها لتجار الظلام (المهربون) الذين ينشطون في منطقة الساحل و الصحراء، و ما أهون هذه الفرضية الأخيرة على قلبه، هذان النوعان من البشر فقط من يمكنهما السير في هذا الطريق، كان من الصعب عليه تحديد هوية السيارة، لكنه اتخذ قراره بالمغامرة، خرج يلوح لها و يصرخ : حاني حاني … يرحم والديك.
اقتربت السيارة من الصوت المنادي حتى توقفت أمامه، فكان فزع “محمد ولد بيه” شديدا، كانت دورية للجيش الجزائري و هذا أسوأ مصير يمكن أن يصادفه صحراوي فار من تندوف، كان على متنها خمس رجال بزي عسكري جزائري، ملثمين و أعينهم تلمع عطشا لسفك الدماء، كل جنود الجزائر على استعداد دائم للقتل إرضاء لغصة بين ضلوعهم عالقة بين نشوة الثورة و ألم حرب الرمال، فسأله قائد المجموعة بمكر شديد، بعد أن ترجلوا جميعا من العربة :
– واش تعدل هون ؟ (ماذا تفعل هنا)
– نحاني الترانسبور باش نكيس موريتان (انتظر وسيلة نقل للسفر الى موريتانيا).
– هذي ما هي طريك موريتان (هذه ليست طريق موريتانيا).
نزل من سيارته و نزل معه ثلاثة جنود ثم أمرهم بتفتيشه، فلم يجدوا بحوزته غير بعض المال من الدينار الجزائري، التي دسها في جيبه و أوراقه الخاصة،.. قرأ الضابط الجزائري تلك الأوراق ثم مزقها، و اقترب من “محمد ولد بيه” ثم أمسك برأسه و قال له :
– أنت هارب من تندوف.
– ماني هارب… راني نحاني هون حتى تظهر شي وثة و نمرك لموريتان… نتعالج (انا لست هاربا من تندوفن اني كنت انتظر ظهور سيارة لتنقلني الى موريتانيا من اجل العلاج).
– موريتان ما عالجوا حتى حالهم، يعودوا يعالجوك نتا ولا غيرك… و مالك ما كستي الهلال (موريتانيا لم تعالج حتى مواطنيها فبلأحرى انت.. و لماذا لم تتصل بالهلال الاحمر الصحراوي).
– واش يعدلوا فالهلال… ما خالك شي عندهم (لا يوجد في الهلال اي شيء)
بعد هذا الرد تلقى”محمد ولد بيه” صفعة مفاجئة من الضابط و هو يقول له: … أنت هارب من تندوف أو حاب تبيعنا لعدو و تكولي موريتان و ..و…(انت هارب من تندوف و تريد ان تبيعنا للعدو، و تدعي السفر الى موريتانيا)
بقي “محمد ولد بيه” صامتا أمام الصفعة و تراجع الضابط الجزائري إلى الخلف ثم أمر أحد مرافقيه بإطلاق النار عليه، لم يتردد الجندي للحظة و أخرج رشاشه و وجه طلقات لصدر “محمد ولد بيه” أردته على الفور صريعا فوق الأرض، و بعد ذلك و امعانا في ساديتهم ربطوا الجثة بحبل مع السيارة و قاموا بسحلها، إلى أن ظهرت في الصباح بالرابوني.
كان مشهد الجثة قاس جدا، مليء بالوحشية و الحقد، و كأن جيشا من الضباع هاجمته، بالكاد يتم التعرف على ملامح القتيل لهول التنكيل الذي لحق به و هي تجر على الأرض… لم تكن مخيمات تندوف في حاجة إلى كل تلك البشاعة، كل ما أضافه مشهد موته كان ذعرا … الجميع أحس لحظتها أن ثمة شيئا غير منطقي، فالثورة بدأت تلتف على نفسها و شرعت في التهام أبنائها.
شاع الخبر و حملته الأفواه الى مسمع “سياتو”، أرملته الحبلى في شهرها السابع التي سقطت مغشيا عليها، ولم تستفق إلا و بجانبها طفلتها التي ولدت نكدا… بقيت الجثة ملقاة حتى مغيب الشمس تحمل معها كل الحزن الصاعد إليها، لملمت أشعتها السقيمة التي لامست جباه و رقاب الظَّلَمَة، كانت تنحجب و كأنها ستنطفأ، لم يسبق للمخيمات أن عاشت غروبا أحزن من هذا، رغم قساوة الحرب، و رغم اخبار سقوط شهداء فيها، … فهناك فرق كبير بين الاستشهاد و القتل، و كأن شمس الغروب لذلك اليوم تعاقب القتلة الذين منعوا حتى وضع الغطاء على الجثة لحجب البشاعة عن أعين الأطفال، غير أن أربعة شبّان من أبناء قبيلة القتيل هموا بشجاعة لحمله عشية ذاك اليوم و دفنه بعيدا عن تندوف، كادت تلك الشجاعة أن تجر عليهم غضب القادة الذين توعدوا كل من يحاول الهرب من المخيمات و يساعدوا علية بأشد العقاب…
عاشت الأرملة “سياتو” كل أصناف الحزن و الإهمال إذ تخلى عنها الأهل و الجيران و هي في أيام النفاس، بسبب فرار زوجها، و مخافة ان يتم اتهامهم بالتضامن معها، فعيون القيادة كانت ترصد كل شيء، و بعد أن التأمت جراحها أصبحت تظل الساعات في المكان الذي دفن به زوجها، رغم أن لا أحد أخبرها بمكان قبره، كانت تضع طفلتها التي اسمتها “حزينة” فوق التراب ثم تتجول بين القبور المهجورة لعلها تعثر على قبر حديث، غير أن قلبها كان في كل مرة يُجْتِيهَا أمام شاهد متشظي، تتأمله شاردة و كأنه يشبهها في شيء، تلتف بين القبور ثم تعود إليه، و ذات صباح، وُجدت طفلتها بنفس المكان الذي كان فيه “محمد ولد بيه” ممددا أمام الأعين.
كان رحيل “سياتو” أبشع من موت زوجها، إذ توارت عن الأنظار دون سابق انذار، و انقطعت نهائيا اخبارها، هناك من يقول أنها ربما ماتت تائهة في الصحراء و هناك من اساطير تتحدث عنها كامرأة تظهر ليلا في الصحراء و تقوم بقتل كل جندي جزائري تصادفه في طريقها، … لكن المؤكد هو انها تركت خلفها طفلتها لتكون ندبا غائرا في جبين تندوف، حملها أحد القادة إلى بيته و قرر تسميتها “البتول”” و بعد أسابيع تطوع “المامي ولد عمر” ليتكفل بها، ليس حرقة على مأساتها.. بل لتصرف له حصة إضافية من المعونات التي كانت القيادة بالرابوني قد وعدت بمنحها لمن يكفلها، بعد أن توجس منها الجميع شؤما و تطيروا من مولدها.
منذ ذلك الحين، لم يُسمع شيء عن مصير “سياتو” وظلت ذكراها جزءا من الوطن المدفون بين شفتي الكتمان و الأساطير..
بقلم : ثائر على الثورة
إبداء ارائكم و مقترحاتكم
كما يمنكم متابعتنا عبر صفحتنا على الفايسبوك