Sahra Wikileaks Center
الصحراء ويكليكس يعمل على النهوض بالفعل الحقوقي بالمنطقة وذلك بإزالة كل شائبة عنه

البتول … أو وجع تندوف (الحلقة4)

 

           هذه هي حيرة الإنسان لحظة الضياع و التيه… و هذا الارتجاف و الخوف الذي ينفق دفعا للقدر لا و لن يكفي،.. ألستم من وفر لها أسباب الموت… الحيرة اليوم لا تكفي كي تمحو سواد الجرم، فالذي يبيع أسرار الجمال للجهل، لن يتخلص أبدا من لعنة ذلك الذنب..  سيعيش ضالا بين المصائب، و تسكنه الخطايا.. تأكل من هدوءه و راحته و أعصابه كما تأكل الأرضة قوائم الخيزران… من يريق الطهر ليغسل أرصفة القبيلة من نتانة أشرافها، يتيه أبد الدهر كلعين الأنبياء، يهيم على وجهه في الشعاب و له أن يقول …لا مساس.

          تبت أيدي القبيلة و تبت أيدي العشيرة و تبت أيدي الثورة التي لا ترحم حاملها و تأكل قلبه و أحلامه…، و تشرب روحه و لا تترك منه غير الجلد و الأوجاع.

 

          فأي موت هو قدر مفجع … و ينضج القلوب، لكن هذا الموت الذي حل بمخيمات تندوف، شوه القلوب و جعلها سقيمة ولا تصلح لحزن آخر.. فمن الموت ما تعجز كل وصفات الصبر عن محاصرة دماره، عظمته تجعلك تقف أمام نفسك صاغرا من غير حياء و لا تملك إلا أن تعدد خسائرك منه، و لا يليق أن تذرف عليه دمعة تبخسه حقه من الهول، لأنك بعده لن تعيد تشكيل ذات الشخص الذي كنته يوما، سوف لن تشبه نفسك أبدا…

          بعد هذا الموت يشعر الجميع في تلك المخيمات أن ألوان الحياة تغيرت و أصبحت فجأة داكنة و مهابة، فالذي ضاع لم تكن روحا كباقي الأرواح، ما ضاع كان خيط الرحمة الهابط من السماء الى رمال الصحراء، كان نذرها الذي دفع عنها افك الظلام و قبلة الفجر التي تقام على شعائرها طقوس الحياة، “البتول” كانت نبية الجمال التي فجرت بناموسها عيون النور الكامنة في صخور النفوس، لتسيل أسرارها رقراقة تنبت أشجار الرحمة و تسيل عيون الرضى و تفقص فراخ الفرح كي تمنع تصحر قلوب البشر في الشعاب.

         …امتدت إليها الأيادي تفحصها و هي تتلوى و من حولها يتلون القرآن ليخلصوها من بطش الروح الشيطانية التي يرون أنها تسكنها، غير أن ما يسكنها، كان الحزن الكبير.. الخادم الوفي للظلم الذي استباح بمعاوله صروح الفرح المشيدة على جفونها و أحرق سنابل البهجة المتمايلة على مد البصر فوق حقول خذيها و أذابت أحماضه المتهاطلة كل زهور الطهارة المسبحة على شفتيها.. من أحبها فقط أمكنه أن يرى هذا الحزن الظالم و هو يجلس على أنقاضها يعاقر كؤوس الكمد المعصور من فاكهة عينيها، حُملت على عجل بسيارة أحد الجيران، حتى دخلوا بها المستشفى  الوطني بالرابوني، هناك توقف كل شيء… أغمي عليها و هي بين الأيدي.

          لم يعد يسمع صوتها، فقط همس الأهل الذين أبعدهم الطبيب الاسباني المتطوع عن الغرفة….هدأ كل شيء في  مخيمات تندوف بعد صمتها، حزن عميق تتجول به الرياح بين الخيام، حتى نباح الكلاب انقطع، كأن السم الذي ابتلعته استقر في جوف كل الكائنات القابعة بالمكان.

            هل ستشرق شمس اليوم و ذات الجفون ليست بيننا ؟

            يصعب كثيرا وصف الموت بغير الموت …

           بدأت الظلمة تسرق من ليلها، و لاحت أولى خيوط الفجر تشق جيوب الظلام.. الأقدام في ذهاب و إياب داخل مشفى الرابوني العاري من كل شيء إلا من الجدران، و الكل يفتي في النازلة، و ماهي إلا لحظات حتى غصَّ المكان بالبعيد قبل القريب، جاؤوا يتتبعون خيوط الشفق الجاثي برهبة على ركبتيه أمام المشفى، رؤوا نوره الحزين فأدركوا أن الليل سيعيش طويلا فوق أرضهم، لا مكان للنور بعد “البتول”، و ما عادت الدمعات تكفي لغسل القلب و تخليصه من همومه، هذا الموت الهادئ الذي رحل يحمل أجمل الأرواح، هو الوحيد الذي خانهم بوفاء كبير، و لابد له أن يعود ليحقق لهم أمنية العيد، لابد له أن يعود ليأخذهم إلى حيث رحلت.

           أو ليس السن بالسن في القصاص من قواعد العدل…

            جميعم قتلوها، تفرق ذنبها بينهم.. فكم يخشون أن يكون القدر قد دبر لهم مكيدة في موتها، كم يخشون أن يعاقبهم بتركهم للنسيان، لأن في آخر الزمان سيتخطف الموت عباد الله الصالحين و لن يترك خلفه غير الظلمة و القتلة.. موت “البتول” واحد من العلامات الكبرى لآخر زمان القضية.. و قد تردد  حينها أن أحد أبناء القياديين  حاول هو الآخر  الانتحار و لم يوفق ..، احذروا فهذا زمن الموت بالانتقاء..!

              و ليس بعدها في تندوف موت يستحق أن يقع و ليس كل من يطلب الموت سيدركه.

              لم يكن لها من عدو أشرس عليها من نبلها و جمالها، و لم تعاني إلا من قسوة كبريائها، جلدتها الإنسانية بأعراف القبيلة التي استباحت إرادتها و حَجَرَتْ على كل الأنوثة الساكنة في رموش عينيها، و صادرت منها حقوق ملكيتها، فتشارك الجميع في هتك السر الذي أنضج بسمتها، كانت ترى المكيدة في عيونهم، و فضلت أن تتواطأ ضدها، لتتورط معهم في مأساتها، أرادت أن يكون لها قسطها من الذنب، فليس كل هالك يؤخذ غصبا، فهناك من يقدم نفسه للموت نكاية في مصائبه.

            كانت أكرم الناس مع أعداءها منحتهم فرصة تكرار الخطأ و روضتهم على ملمسه الناعم كي يفقدوا كل إحساس بالشرف، و كأنها تصر أن تظل ذكراها جرحا يسيل بينهم، و أن يظل وجهها شيوعا و عموما ينكس رقابهم، فعاشت تسفه أحلامهم عن الوطن من غير أن تبالي، لأنها تمنت وطنا مختلفا عن كل الأوطان العربية، وطن لا يحكم فيه “أبو جهل”، ببزته العسكرية و بندقيته السوداء، وطن دافئ الحضن لا تشعر فيه القصيدة باليتم، لا تدخله الكتب ليلا كي تحترق مع ضوء الصباح، لا يأكل شعبه من صدقات العالم .. كانت تحلم بوطن طبيعي لا يعيش فيه الناس كأعقاب السجائر، أرادته وطن يستحق أن تبكيه الأعين شوقا عند البعاد.

 

بقلم : ثائر على الثورة

إبداء ارائكم و مقترحاتكم

 

[email protected]

 

 

كما يمنكم متابعتنا عبر صفحتنا على الفايسبوك

 

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد