دخلت الشاحنة مدينة بشّار و واصلت إلى أن بلغت دائرة القنادسة، كانت تبدو بشار في ذلك المساء كمدينة مرهقة بعد أن ضرب الليل بخماره المظلم على وجه شوارعها، لا أحد يفهم كيف يعلق ثلثي المدينة في جوف الظلام الدامس، وهي التي يشهد لها التاريخ بأنها أول مدينة جزائرية أضيء فيها مصباح حينما كان ظهر الجزائر متورما من حقد الفرنسيين و كانت تتحرك بطيئة لثقل النير القابض على خطاها، ..اليوم و بعدما حصلت على حريتها .. ابتلعها الظلام .. كم هو مخجل هذا الحال.
“كولومب بشار”، كما يعشق الفرنسيون مناداتها… لا أحد يدري بماذا أمهرها هذا القائد الفرنسي “كولومب بيشار” لتقبل بحمل اسمه، لكنها ستظل حورية الصحراء التي أسرت القلوب و جعلت الرسام الروسي “ألكسندر ياكوفليف” يبدع رائعته “فاطمة”، لم يجد هذا الأنيق أرقى من جسد المرأة حتى ينعت للعالم كيف تخرج هذه المدينة كل صباح لتقطف خيوط النور من حقول اليقين، كي تعود أكثر جمالا و الألوان تلاحق خطاها.. و كيف تمضي ليلها كأم عزباء تحلم بمن يرتق ثوب التاريخ الممزق بعيد أميال من خصرها، حتى تراضي روح الشهيد “بوعمامة” الموجوع في مثواه بالعيون الشرقية.. فعند كل مساء تجفف “فاطمة” دموع الأرامل و الأيتام بسلهام الشهيد، إذ لا يوجد بيت في كل بشار لم يضع أجمل و أبهى و ألطف أبنائه أمام الثورة كشوكة تطعن قدم الاحتلال و تدميها، لقد نجت الثورة لكن بعد ماذا ؟؟ … بعد أن فرغ فؤاد الوطن من الوطنيين..
كم كانت تحزن “فاطمة” حين تداهمها روح “بوعمامة” من خلف الأسلاك الفاصلة بين بشار و مدينة فكيك المغربية لتخاطب تلك الأرواح بصوت الرياح المتعطرة بعبق البارود المصنع بدار الحبة الفاسية، و كلما امتدت رموش “فاطمة” لتنظف وجه “بوعمامة” من غبار الصحراء، جرحتها الأسلاك الشائكة و أفزعتها نظرات فوهات البنادق المتربصة كأعين الموت..
ستظل تلك الحدود.. و كل الحدود.. تعاني من روح “بوعمامة”، و تفزعها بندقيته الراقدة بمتحف وجدة تحرصها طلقته الأخيرة، لم يترك تلك الرصاصة في جوف بندقيته عبثا، و كأنه سبق في وحي ادراكه أن أحس بخيانة السياسيين، فبعدما أنفق حياته من أجل الجزائر وجد نفسه بعد استقلالها أول الساقطين من حجرها… لا تزال الجزائر تدين لهذا المقاوم الشهيد بقبر في قلبها.
وان نسيت الجزائر متعمدة مجاهدها “بوعمامة” حتى تمنع اختلاط تاريخها بتاريخ المغرب، مثلما اختلطت دماؤهما، فإن “فاطمة” لم تنساه، و ستظل تعانق صورته و لا تكشفها إلا للطاهرين الذين لم يغمسوا أصابعهم في الحبر الملعون للسياسة.. لأن في قلب فاطمة إيمان كبير بأن ما فرقته السياسة، ستجمعه يوما رحمة الله.
هكذا همست من تحت ثياب الليل في سرّ “البتول”، التي قضت ليلة هادئة بين مشاعر أهل القنادسة،… أفاقت “البتول” وخرجت تغسل وجهها بندى الصّبح النائمة قطراته في أحضان كؤوس الياسمين، ثم أفردت ذراعيها لتعانق وجه مدينة بشار و تضع على جبين “فاطمة” قبلة الشكر، كهدية أفلتت من يد الفجر الطاهرة، قبل أن تلتحق من جديد بالشاحنة وهي تحمل وجبة فطورها من الخبز و الحليب، لئلا تكون “فاطمة” قد أسقطت شيء من عرف الضيافة، و حتى لا يقال يوما لـ “بوعمامة” أن “فاطمة” تكاسلت عن الواجب.. فصعدت “البتول” بثغر باسم شاحنة الرحلة، و ركنت إلى زاويتها الضيقة التي بدأت تحبها، وانطلق الركب في أنات يواصل الهجرة نحو الشمال.
بدت “البتول” مترنمة كطائر يتدلل تحت الوشاح الدافئ للشمس، تمنت لو طال المقام ببشار لأيام عوض ساعات من الليل، فما حرمت منه طيلة سنوات طفولتها، وجدته في القنادسة، لكنها لم تعشه إلا بضع لحظات.. جلست بكل طفولتها الشاحبة تنظر الشاحنة و هي تجر عينيها غصبا، بعيدا عن حضن “فاطمة” التي خرجت تودعها كأم نظف الموت حضنها و ما عادت تملك في هذه الدنيا غير صبية أخيرة.
طال بهم السفر حتى تملكهم التعب، فانكفأت “البتول” مرهقة على وجهها تتوسد خصور أحلامها الهزيلة، نامت لساعات طوال و لم يوقظها غير طفل كان يتقاسم معها بؤس الرحلة، فتحت عينيها و نظرت إليه بلوم من أبعدته الحقيقة عن نعيم الوهم، ليخبرها أنهم قد بلغوا من سفرهم عين صفرة، المدينة التي صعب على “البتول” الاحتفاظ بملامحها، و منها راحوا يسابقون الزمن في طريق جديد إلى الجلفة التي استقبلتهم بسرابيل الخوف القرمزية اللون، كان الصمت يعوي في أذني هذه المدينة بريح الحزن، و يمد وروده السوداء لعزاء أهلها و هم يتبادلون النحيب و الذعر، كمن أسلم للتراب رفات عزيز هلك في كمين نصبه الغضب.
لم تكن “البتول” لتفهم ما يقع بالجلفة، وهي تنظر الوجوه و الملامح المنسحقة تحت أقدام القلق، الذي يميت كل نبوءات الفرح الصاعدة مع شمس الصباح لتداعب الرغبات..؟
فقد كانت بين المكلومين امرأة تسارع الخطى و تلتفت في كل اتجاه، تبحث عما يطفأ نار فتنة أتت على كل خزائن قلبها و لم تترك لها غير رماد الذكرى، تنعي الآمال المذبوحة بصوة يخنقه الحزن وهي تقول “واش بقا من بعدك.. وآش يسالوا فالدزاير حتى يغصبوها فيك”..، كانت المرأة ترثي الرئيس “بوضياف” الذي قضى مقتولا على يد حارسه، فقد كان هذا الرئيس أحد الستة المقلقين لفرنسا، منذ ثورة نوفمبر لسنة 1954، لكنه بعد الاستقلال قرر العزلة بعيدا عن الجزائر كناسك زهد الدنيا و بهرجتها، بعدما شعر بالغربة في الوطن الذي جعل يكشف تطرفه في حب أولاده، و رآه يتحول إلى وطن غريب عن الجزائريين، غير أن دستور 23 فبراير من سنة 1989، أعاد له الشوق مجددا لنظرة غزل من عين الجزائر الدامعة، أحس بها تناجيه كمظلوم استزاده غضبه مهالكا، فعاد إليها منقذا ليجنبها الفتنة العظيمة، لكنه نسي أن كل مظالم الجزائر ألفت النصرة بالدماء..
“بوضياف” الذي جاء بالنور، انطفأت شمعته بعنابة و غرقت بعده كل الجزائر في الظلام… كان “بوضياف” يحيا بمدينة القنيطرة المغربية كمتصوف، ينتج بورع لبنات الآجور في معمله البسيط كي يعين المغاربة على بناء وطنهم، كانت أبعد أحلامه أن يعبر من ممر “زوج بغال” مرورا طبيعيا دون أن يستفزه ختم الجمركي، و دون الحاجة لوثائق الهوية، و كان يدرك أن الفساد بوطنه قوي الحيلة، متجبر الدهاء، ممشوق الوقاحة، أشقر السفاهة، و عناه تلمعان كألسنة النار في عمق الليل الموحش.. رغم صفاته اقترب منه، لكن ما عسى يفعل من زرع في قلبه الحر حب الوطن و جمر أشواقه.. و دون حياء قتل ذلك الفساد ملايين الجزائرين، و جعل اطفاله أيتاما و رمل ملايين الجزائريات، و هو يتخطف بيده الآثمة روحه الطيبة.. مشهد اغتياله زاد الفساد سطوة و اصبح لا يضاهى، تلك السطوة تحمل وزرها الإسلام.
ما لم تفهمه “البتول” كان سؤالا دبج ظفائر حيرتها المنسدلة على صدر هذا الموت الذي لا يكاد يفارق خطاها، يسبقها حيثما ذهبت.. غير أنها رأته في الجزائر أكثر تكلفة و أكبر حظا من الموت في مخيمات تندوف التي تقبر مقاتليها دون أن يعلم حتى أهاليهم، فالموت في شرع تندوف يسهل بلوغ مقامه، يكفيك لتدركه أن تكون بين المريدين المدثرين أسفل أحلام البشر و المولدون بنور كفيف، و كل تندوف على صعيد واحد أمام الموت، يقفون منتبهين في عتمته مثلما يقف الضنين صاغرا أمام فخامة القضاة، لأن الإنسان في تندوف لا يعلم نقائصه بعد الولادة إلا حين يغادر خمائلها، و عند أول موعد مع الحقيقة في مدن النور يعرف اللاجئ الصحراوي بتندوف أن روحه قد فارقت الإنسانية لحظة ولادته بالمخيمات .. بينما هو بقي على قيد البؤس..
أما في الجزائر التي تعزف فيها أيدي الظلاميين على أوتار قانون المهالك،.. يسموا فيها الموت إلى مرتبة الحكم، يسن قوانين الزهد كي يغالي في النعيم و يحكم بمنطقه القاسي ليعدل بعيدا عن الحق، الموت في الجزائر يحمل نبوءته إلى الجبال و يصلي في المساجد، يأكل الخبز و يداهم الأسواق، يجلس على كرسي الحكم بفخامة، الموت في الجزائر له صوت موحش يرسم الذل بألوان زفراته على كل دمعة نزلت من مقلة مسكين، و تنحت أنامله ظل الديمقراطية الأعوج الذي لا و لن يستقيم .. الموت لغة تعلوا بنطقها مفاهيم الحزن و تجبى تكاليفها من دماء الفلاحين و التجار و الحدادين و النجارين و الشعراء و الصحفيين و … هذا الموت الجزائري الطالع، أظهر أن للعرب ثقافة مختلفة للإصلاح، وحدهم يدفعون أتعابها من الدماء، وحدهم يعبرون إلى مستقبل فوق الجثث، فهي الأكثر وفرة و الأبخس ثمنا.. ألم يقل الجنرال “العماري” في ماي من سنة 1992 :” أنا مستعد أن أقتل ثلاثة ملايين جزائري لاستعادة النظام..”
أمّا براميل النفط و الغاز، فهي خالصة لوجه فرنسا، لقاء بعض السمعة، و حتى تشهد للفاسدين – زورا- أن ما حدث كان محض إصلاح … فكل ما يستطيع أن يملكه المواطن الجزائري في و طنه هو القبر أو لقب المجاهد، لأن تراب الجزائر لا يقبل بغير الدماء نخبا ليبارك ثورة المقهورين، و كأن في جوف هذا الوطن ينبض قلب الأمير “فلاد تيبيس”، فحيثما نضجت ثمار الهموم في بساتين الجزائر، إلا و أريقت الدماء بسخاء، حتى عند ثورة الخامس من أكتوبر 1988 التي قادها العمال و الطلبة في تلابيب النظام الجزائري المحبط، حينما كانت فرنسا منشغلة تجهد نفسها لإغلاق أبواب خزائنها التي تفيض بالخيرات المنهوبة من أرض الشهداء، و لما علمت أن تمت من يسرق منها جزائرها، أفتت على حكام قصر المرادية بتقديم إبنها البار لقمع غضب الشعب، فخرج الجنرال “نزار”، الضابط السابق في الجيش الفرنسي يقود العساكر و كأنه جاء من وطن بعيد ليسطوا على الجزائر، نزل إلى الشوارع يفرق هدايا الموت، فأسقطت بنادق رجاله مئات القتلى.. لا تزال جتثهم في الذاكرة لم تدفن بعد، وإن ضمّ التراب رفاتهم.
كل ذلك الموت و القهر حدث لإطفاء غضب البؤساء الذين يصرخون لقاء بعض الحياة الكريمة، غير أن الجنرالات لم يكن لديهم ما يسكتون به جوع الشعب فأسكتوا صوته إلى الأبد.
بقلم : ثائر على الثورة
إبداء ارائكم و مقترحاتكم
كما يمنكم متابعتنا عبر صفحتنا على الفايسبوك