بـقـلـم:بن بطوش
لا أريد أن يقرأ هذا المقال من حيث الضرر، و لا أريد أن يفهم هذه المساهمة الإعلامية على أنها تطاول على الذاكرة الجماعية للحليف الجزائري الذي ندين له – كشعب صحراوي- بكل ما نحن فيه من حلو و مر…؛لأن “مكة الثوار” وضعها في مخيلتنا أكبر من الجدال الحاصل اليوم، و ما أوجعني هي تلك الحروب الرقمية التي يخسرها الحليف كل يوم ضد المحتل المغربي، و يبدو أن هذا الأخير صنع إمبراطورية رقمية لا تنام و لا حدود لها في ترصد كل شاذة و فادة، لدرجة أن استطلاعا للرأي نشرته وكالة “أصوات مغاربية” عن تأثير الثقافات المغاربية إفريقيا و مغاربيا، احتلت فيه الثقافة المغربية الرتبة الثانية إفريقيا و الأولى مغاربيا.
هذا الاستطلاع جرى بمساعدة الذكاء الصناعي لمحركات “AI” التابعة لمركز التطوير التي يمتلكها رجل الأعمال الأمريكي “إيلون ماسك”، لذلك نحن هنا أمام حيرة كبيرة عن السبب الدي جعل الجزائر – الدولة القارة التي تسبح فوق أنهار من الغاز و البترول- تعجز عن نشر ثقافتها مغاربيا و إفريقيا، و تكبر حيرتنا و نحن نعلم أنه هذه الدولة – حتى اليوم – تراكم النكسات و تؤسس لوضع الدولة الفاشلة، بعدما عجزت عن صناعة مجد ثقافي و رقمي و لجأت للبروباغاندا الغريبة و المريبة و المثيرة للسخرية، بعدما شاهدنا جميعا مقطعا يتحدث فيه مستشار الرئيس الجزائري للأرشيف الوطني والذاكرة الوطنية، “عبد المجيد شيخي”، عن اللقلاق الذي انخرط في الثورة الجزائرية و قام بتمزيق العلم الفرنسي و تلطيخه بفضلاته داخل عشه.
“عبد المجيد شيخي” الذي ينسب إليه توريط الرئيس “تبون” في تصريحات غريبة سابقة؛ عن المسدسين اللذان أهداهما الرئيس الأمريكي “جورج واشنطن” لـ”الأمير عبد القادر”، مع ان التاريخ يؤكد بأن الرجلين عاشا في زمنين مختلفين، و عن ولادة الديمقراطيات و الثورات الأوربية بالجزائر، و أن من بنى دولة مصر و جامعة الأزهر هم الجزائريون الأولون…، حيث جاء في المقطع هذه المرة، على لسان المستشار الرئاسي “شيخي”، بأنه كان للجزائر طائرا لقلاق مجاهد كُسرت ساقه برصاص الجنود الفرنسيين و تم اخضاعه لمحاكمة العسكرية و حُكم عليه بالمؤبد عقابا له على تدنسه للعلم الفرنسي، و قال بأن هذا الطائر عاش مدة بالسجن مع المجاهدين و ظل يعرج بساقه المكسورة إلى أن جاء الاستقلال…، و زاد في روايته أن إدعى بأنه التقط صورة لهذا اللقلاق الذي و صفه بـ ” بلارج طويل الڭايمة” و حاول التفتيش على تلك الصورة في هاتفه الجوال، وهو يتذكر هذه الحادثة المسكوت عنها جزائريا منذ سنة 1961 لكنها لم يتحدث عنها أحد إلا بعد مشاهدة مقطع لغراب بفلسطين و هو ينزع علم إسرائيل.
كان القياس يقتضي أن تطوى حكاية اللقلاق التي سردها “عبد المجيد شيخي” و التي لا يمكن فهمها إلا في إطار الأساطير التي كانت تُنسج عن الثورة الجزائرية لتحميس الشعب، لكن ما حصل بعدها كان سببا في هذا المقال، فبعد تعرض رواية مستشارالرئيس الجزائري للتشكيك من طرف نشطاء جزائريون و عرب، تدخلت السلطات الرسمية الجزائرية على الخط، و أعطت تعليماتها للترويج للقصة من على منابر المساجد لمنحها أبعادا دينية، لكن فقهاء السلطة الجزائرية غيّروا بعض التفاصيل في الحكاية، و روجتها المنصات الصحفية و القنوات الرسمية الجزائرية و بثها الإعلام عبر نشرات الأخبار لترسيخها في الوعي الشعبي، حتى يصبح للجزائر أساطيرها الحية كما هو في أساطير اليونان القديمة.
لكن السلطات الجزائرية تجاوزت حدود اللياقة مع الميثولوجيا، حيث أخرجت روايات جديدة عن “الصخرة المجاهدة” التي حوكمت بالمؤبد و كان تُعدم سنويا بالرصاص لأنها سقطت على جنود فرنسيين و قتلتهم، و عن “شجرة البلوط المجاهدة” التي كانت تخفي في جوفها عددا من المجاهدين، و “الحمار المجاهد” الذي حمل الأسلحة و سلك بها الجبال دون أن يرشده أحد، و عن “البغلة المناضلة” التي حملت المنشورات، و عن الجني الذي كان يتربص بجنود المستعمر و يقتلهم دون أن يتمكنوا من رؤيته، مما جعل النشطاء يصفون ما يجري في الإعلام الجزائري بالهوس المرضي، و أفتى الكثير من الخبراء المتابعين للصحة النفسية للشعوب، بأن المواطن الجزائري لديه مركبات نقص ثقافية تدفعه للتأليف و الابتكار و التخيل، حتى دون الخضوع للمنطق و الأخلاق، انطلاقا من فكرة أن الإنسان الجزائري خارق و لا يستطيع أحد التفوق عليه و أن بلاده استثنائية في كل شيء و مختلفة عن باقي دول العالم، و من هذا المنطلق بررت عدة حسابات خليجية فرض السلطات السعودية لشهادة السلامة الصحة العقلية و النفسية على المعتمرين و الحجاج الجزائريين.
و حتى تصبح الأمور على قدر من الموضوعية، فإننا بحاجة إلى منصة للمقارنات حتى نفهم سر انزياح الرواية الجزائرية عن المنطق و إتهام رواتها بالكذب البواح؛ فمثلا نقارن ما يحصل في الجزائر مع نوازل للمقاومة في دولة المغرب إبّان الاستعمار الفرنسي، حيث تقول إحدى الروايات المنقولة عن المؤرخين الفرنسين، بأن امرأة زارت سجنا يعتقل فيه أفراد المقاومة و جيش التحرير المغربي، و كانت تحمل قفة للأكل و عند وصولها إلى حراس البوابة، سلّمتهم القفة و اسم ابنها المدون في ورقة ثم انصرفت، كما هو معمول به في ذلك الوقت، بحيث كان السجين يتسلم القفة بعد المناداة عليه من طرف الحراس باستخدام مكبرات الصوت، فنادى الحارس بصوت عال عن اسم ابن تلك المرأة و هو يقول: “يحيى بن يوسف”…. ساد الصمت داخل السجن و لم يجب على النداء أحد من السجناء، و كرّر الحارس النداء: “يحيى بن يوسف”، ففهم السجناء الرسالة و ردّدوا خلفه بصوت واحد: “يحيا بن يوسف”.
ثم تكرر النداء و ردد خلفه السجناء و بدأت الفوضى و هاجم السجناء حرّاس السجن؛ لأن المرأة لم تعطي حراس السجن اسم ابنها بل شعارا و كلمة السر لإطلاق الثورة و التمرد، بحيث كان “بن يوسف”، هو الاسم الذي يُعرف به سلطان البلاد آنذاك،”محمد الخامس”، و حين نادى الحارس بعبارة “يحيا بن يوسف”، أشعل حماس السجناء لأنه هتف بحياة الملك الموجود وقتها في المنفى، وكانت تلك شرارة ما أصبح يصطلح عليه “ثورة الملك و الشعب”، التي يعرفها و يدرسها الطالب العربي من المحيط إلى الخليج، و هذه من الروايات التي نفخر بها في الأوطان العربية و تحترم الإنسان العربي المجاهد و تصور لنا أناقته الفكرية، و يتفوق فيها المناضل بذكائه على المحتل الغاصب، و لا يضرني شيء كصحراوي أن اعترفت بأثرها، فنحن لا ننكر على المغاربة ثورتهم العظيمة كما لا ننكر على الحليف مآسيه مع نفس المستعمر.
أعلم أيها القارئ الكريم بأن كل ما سردته عليك من رأي و معطيات قد أقنعتك بأن في دولة الحليف يوجد مركب نقص، و أن العداء المطلق بين الرباط و الجزائر مردّه الأول إلى هذا الخلاف، و كلنا يتذكر يوم قال الرئيس الجزائري “تبون” بأن المغاربة “اللي شافوه ديالهم و اللي ما راوه عندهم فيه النص”…، في إشارة إلى السيطرة المطلقة للمغاربة على التراث و الثقافة و العمق التاريخي لشمال إفريقيا، و عجز الجزائر عن مجاراة الرباط في هذا التحدي، لأن هذا هو أصل الخلاف حتى الآن منذ وصول “تبون” و إعلانه قطع العلاقات الدبلوماسية و وقف تدفق الغاز…
الأمر لم يعد مجرد خلاف حدودي بين دولتين أو مجرد صراع على قضية و مبادئ ثورية مع نظام ملكي توسعي يفكر بالمنطق الإمبراطوري و يريد إحياء المجد التاريخي، بل تعدى الأمر إلى “الغيرة الوطنية”، لأن ما ينقص النظام الجزائري للتحول إلى قوة إقليمية فعلية، و ليست قوة إقليمية خطابية، هو العمق التاريخي، و الشخصية الثقافية و الهويات البصرية و الفكرية و الشفوية، و الإرث المؤسساتي التراكمي كما هو لدى نظام المخزن الذي له عمق و إرث يمتد لـ 13 قرنا…، و من يريد مناقشة هذا الرأي عليه أن يتأمل هذه الملاحظة أولا، بأن أول رئيس للجزائر تاريخيا هو “بن بلة” و قبله كان القرار يتخذ في باريس، و قبل باريس في القسطنطينية بتركيا…، و أن الجزائر لا تضم قبر حاكم تاريخي واحد، قبل الرئيس “بن بلة”، و جل قبور من حكموا الجزائر توجد خارج هذا الوطن.
المعضلة أننا في الدولة الصحراوية نعاني نفس مركبات النقص و نتشارك عدة نقاط مع الحليف، لأن أول رئيس صحراوي هو مفجر ثورة التحرير الشهيد ” الولي مصطفى الوالي”، و من لديه غير هذا الرأي فليتلطف و يتفضل بمناقشتنا عبر المنصات التي ننشر عليها مقالاتنا، و نحن هنا لا نؤسس للجدال الصدامي، بل نطلق نقاشا واعيا حتى لا يخرج علينا من يحدثنا عن “الجمل الشهيد”، “السمكة الشهيدة” التي رأيناها في أيدي من عبروا المحيط ذات تهور قيادي أنهى قصتنا مع معبر الكركرات بهزيمة لن تنسى لنا، و لا نريد أن نجد في المستقبل ما يحكي لنا عن أسطورة رجل أسقط الشيطان “يعني” بمقلاع جلدي…، لا نريد روايات كاذبة عن شهداء من الخيال لا تصلح حتى في السرد السينمائي الهندي، لأن مناضلين تحولوا بقدرة قادر إلى تجار و رجال أعمال، و شهدائنا يقصفون حتى قبل أن يروا العدو.
لإبداء ارائكم و مقترحاتكم
كما يمنكم متابعتنا عبر صفحتنا على الفايسبوك
تنويه: نخبركم أننا أنشأنا قناة على اليوتوب (SAHRAWIKILEAKS MEDIA)، لذلك نرجو منكم الدعم بالاشتراك في القناة