بـقـلـم : أغيلاس
في يوم صادف “الأصمعي” جارية تحمل وعاءا فوق رأسها و قد ملئ بالرمان، فتسلل رجل خلفها و سرق واحدة، تبعه “الأصمعي” حتى رآه يتصدق بها، فناداه متعجبا : ويحك ظننتك سرقتها لأنك جائع !!!، فأجابه : لقد تاجرت بها مع الله … جواب الرجل زاد من حيرة “الأصمعي” الذي سأله كيف ذلك ؟، فقال الرجل : لقد سرقتها فكتبت علي سيئة، و تصدقت بها، فنلت عشر حسنات، و بقي لي عند ربي تسع حسنات…، غضب “الأصمعي” لشرح الرجل و قال له : بل سرقتها فكتبت عليك سيئة و تصدقت بها فلم يقبلها الله منك، لأن الله طيب و لا يقبل غير الطيب.
بذات المنطق أجيب بعض الأقلام الصحفية الصحراوية التي تعاملت مع خبر رفع الخارجية الأمريكية لوسم السرية عن وثائق تتعلق بالصحراء الغربية تعود إلى سنة 1975، و العلاقة التي كانت بين الرباط و مدريد و واشنطن في هذا الملف، و كيف حصل المحتل المغربي على الصحراء الغربية…، حيث نشرت الزميلة “المستقبل الصحراوي”، مقالا مقتبس من الموقع الإلكتروني لجريدة “القدس العربي” للصحفي و المحلل السياسي،”حسين مجدوبي”، الذي استقى بدوره معطيات مقاله عن الصحف الاسبانية، حيث اعتقدت تلك الأقلام الصحراوية أن نقلها للمقال دون تحديثات و تغيرات هو كسرقة الرمانة، و حاولت أن تتاجر به مع القيادة و الشعب الصحراوي و أن تحصل على الحسنات العشر، لكنها بعد نشر المقال و الإمعان في تفاصيله اكتشفنا أنه مقال ملغوم و أن الصحافة الصحراوية تفتقد للرؤيا التحليلية و لا تملك القدرة على فهم أحداث تاريخية بشكل صحيح، و أن الحسنات المرجوة انقلبت حسرات و سيئات.
فلو أن صحفا مغربية هي من فعلت و أعادت نشر ذالك المقال، لكان الأمر مبررا، لكنها فضلت التعامل مع الوثائق مباشرة و تجاوزت ما جاء في صحف مدريد و غيرها من الأقطار العربية، لأن كل مجتمع يعتني بالجزء الذي يهمه في الوثائق، و لا يورط نفسه في قراءات بعيدة عن أهدافه كما فعلت صحافتنا التي أعادت نشر المقال كما لو أنه ملكها دون أن تشير إلى مصدره.
المصيبة أن صحافتنا أثبتت بهذا الفعل أنها غير ناضجة و لا تمتلك الحنكة الصحفية، و ليس لها القدرة على التحليل و تركيب الصور السياسية للمواقف، و لا تستطيع استخراج رأي يمكن أن تقدمه للشعب الصحراوي يخص سياسة رفع السرية الأمريكية عن الأرشيف، لهذا هي في أمس الحاجة للاستعانة بقراءات معينة لصحفيين أجانب، و عليه فإننا مضطرون مرة أخرى أن نبادر لنمنح الشعب الصحراوي قراءة شاملة و ملمة بالحدث، عبر وضع التساؤلات : لماذا ترفع السرية عن الأرشيف الأمريكي الخاص بالصحراء الغربية في هذا الظرف ؟ و هل توجد علاقة بين الأمر و صفقة القرن أو بينه و بين ترسيم الحدود في الصحراء الغربية، و هل هذا الوثائق تستخدم للضغط على جهة معينة لتمرير موقف معين ؟ ثم أخيرا ما علاقة هذه الوثائق بوثائق كان قد سربها موقع “ويكليكس” الاصلي و تخص اللقاء السري في باريس بتاريخ 17 ديسمبر 1975 الذي جمع “بوتفليقة” حين كان وزيرا للخارجية الجزائري و “كسنجر” أول وزير خارجية أمريكي يهودي ؟.
مدريد أعادت نشر تلك الوثائق التي لم تعد سرية و انقسمت صحافتها بين مشكك في مصداقيتها، و بين من اتهم أمريكا باستهداف ديمقراطية اسبانيا، لأنها تؤثر مباشرة على سمعة الأسرة الملكية الإسبانية، و بالخصوص شخص الملك “خوان كرلوس”، الذي أظهرته الوثائق كملك ضعيف أمام “الحسن الثاني”، و تظهر تلك الوثائق أن ما جاء في نصوص السيرة الذاتية للملك “الحسن الثاني” (ذاكرة ملك)، يتوافق مع ما ذكرته الدبلوماسية الأمريكية، أي أنه نجح في إقناع الأمريكيين بأن مصالحهم بعد سقوط ديكتاتورية “فرانكو”، لن تكون في مأمن و أن عليهم دعم المغرب و مسيرته حتى يتمكنوا من الحفاظ على تلك المصالح، و أن المغرب ليس ضعيفا بل يستطيع تطويع الظروف لصالحه.
في نفس السياق تقول وثائق “ويكيليكس” المسربة حول اجتماع باريس بين”كسنجر” و “بوتفليقة” ، أن الأخير أراد إغراء الأمريكيين ليضغطوا على الرباط و قال لوزير خارجية أمريكا أن الصحراء الغربية بعد 10 سنوات إلى 20 سنة ستصبح كويت جديدة بالغرب الإفريقي، لكن “كسنجر” أجابه : “نحن لا نعارض الأمر، هذا ليس من شأننا..!” و أضاف “كسنجر” خلال الحوار “بأن واشنطن لا ترغب في فقدان حليف مهم قد يغير ألوان انتمائه السياسي في حالة أخطأت أمريكا في تقدير قيمته و ينتسب إلى المعسكر الشرقي”.
الآن يمكن القول أن بإضافة التسريب الذي قامت به “ويكيليكس” إلى الوثائق التي رفعت عنها السرية، يمكننا الحكم بأن جميع تلك الوثائق هي تخدم الرباط، و تظهر الملك “الحسن الثاني”، كرجل سياسي كبير له رؤيا غير عادية للأمور، و استطاع أن يرفع يد إسبانيا عن الصحراء و أن يدفع بأمريكا لخدمة مصالحه، و أن يجعل الجزائر خارج لعبة التوازنات، و أن يحتفظ بموريتانيا ضمن دائرة صداقاته، و أن ينظم مسيرته باللون الذي يريده و يحصل على الصحراء الغربية ، ليبقى السؤال المتأخر لماذا ترفع السرية الآن..؟.
الأمر بسيط، فأمريكا تحاول أن تخلق نوعا من التوازن عبر تقديم خدمة مجانية للرباط و إظهار المغرب في موقف المتحكم في المنطقة، و أن فرضه الأمر الواقع على إسبانيا في قضية ترسيم الحدود ليس وليد اليوم بل جرت العادة أن تخضع مدريد لرغبات الرباط، ثم لأن أمريكا حين قامت باستدعاء “مولود سعيد”، ممثل الجبهة إلى الإفطار و العشاء الخاصين بالدخول السياسي السنوي، و إلقاء الكلمة هناك عوضا عن الدول الإفريقية، لم تهتز الرباط و لم تعلق و تركت الحدث يمر دون ضوضاء، و احتفظت لنفسها بحق الرد، و هذا جعل واشنطن تكتشف أنها لعبت الورقة الخطأ لتغيير موقف الرباط من صفقة القرن، و هي تحاول إصلاح الأمر عبر تقديم خدمة للرباط على حساب إسبانيا.
هكذا كان على صحافة الرابوني أن تمارس التحليل، و أن تخضع كل تلك الوثائق لإعادة التدوير السياسي، أو تترك الخبر يمر دون إثارته، لأن أرشيف الدول الكبرى لا ترفع عنه السرية إلا لتحقيق أهداف معينة، كما حصل مع الأرشيف الفرنسي الذي رفع السرية عن وثائق نظام “بوتفليقة” و كشف فساد الرجل خلال فترة شغله منصب الخارجية الجزائرية و لم تمر أسابيع حتى تأجج الشارع أكثر فأكثر، و أدى الأمر لإسقاط نظامه، و تكسير تلك الصورة المثالية التي علقت في مخيلتنا جميعا، و التي تقول أن أجمل فترة في تاريخ الجزائر هي فترة حكم “الهواري بومدين”، لأن الوثائق الفرنسية كشفت عن فساد مهول استشرى في جسد الجزائر خلال تلك الحقبة.
إبداء ارائكم و مقترحاتكم
كما يمنكم متابعتنا عبر صفحتنا على الفايسبوك