بـقـلـم : بن بطوش
لا أدري إن كان الأمر صدفة أم قدرا…، لأنه حين كان العالم يجتمع في مراكش ليضع خطته كي يحارب التطرف و الإرهاب و الفكر الداعشي، أعلنت العراق رسميا عن وفاة أحد أشهر شخصياتها خلال حرب الخليج الثانية، تلك الحرب التي مهدت لعراق ممزق ترتاع فيه المذاهب التي أفقست لنا بيضة “داعش”، فقد أذاعت وكالة الأنباء في بلاد الرافدين أن “سعيد الصحاف” انتقل إلى جوار ربه، و أنه خرج من هذه الدنيا تاركا خلفه تاريخا من الخطابات و المؤتمرات و ذاكرة بصرية يصعب نسيانها، صاحب بيانات الانتصارات العراقية التي لا تنافسها في الشهور الأخيرة غير بيانات “لكذيب” للبيت الأصفر في حربه ضد جيش الاحتلال المغربي… رحل إذن من كان يصف الجيش الأمريكي بـ “العلوج”، رغم أن الكلمة لا تفسير لها في اللغة العربية، و كلنا نتذكر كيف اختفى مع الحكومة العراقية يوم سقوط بغداد في الثالث من أبريل لسنة 2003، و تلكم كانت حكاية انهيار و نهاية قصة الجيش الجمهوري العراقي الذي لا يقهر.
وفاة “محمد سعيد الصحاف” تفتح أمامنا جرح العراق بحروبه التي لا تنتهي…، و صراع طوائفه و هشاشة مجتمعه و جشع الغرب في السيطرة على منابع الطاقة، و ضعف المجتمع الدولي العربي الذي سلم العراق للشيعة على طبق من التنازل… وفاة “الصحاف” تذكرنا بأصل الحكاية التي نسل منها عرق الإرهاب الداعشي…، هذه الوفاة ليست كغيرها، لأنها تعيد إلينا ذكرى بلاد المليون عالم، الذين تحولوا من نجوم المختبرات إلى متسولين في الشوارع؛ فمحنة علماء العراق مأساة لوحدها.
و في هذا سبق قرأت مقالا للرائعة الجزائرية “أحلام مستغانمي” قبل سنوات، كتبت فيه عن علماء العراق الذين يحصلون في تقاعدهم على دولاران فقط، و قالت: “بعدما أفنوا أعمارهم يطورون برنامج “صدام حسين” النووي، تخيل أيها القارئ الكريم حجم المهانة في هذا التقاعد الذي يحصل عليه علماء العراق…”، و أن مليون عالم عراقي -حسب الأمم المتحدة- فضلوا الهجرة، و من بقي في العراق فتشت أدمغتهم قبل منازلهم، فيما أراد “ريتشارد سيرتزل”، الخبير في وكالة الطاقة النووية و أحد المفتشين الذين أهانوا العراق بزياراتهم التفتيشية، أن يطمأن البشرية فقال: “أن رحاب طه، المرأة التي كانت مسؤولة عن البرنامج البيولوجي – الجرثومي في ترسانة جيش صدام، أصبحت مجرد ربة بيت بدوام كامل”…
و اليوم أنا و كصحفي يعي خطورة المرحلة، أطمئن المجتمع الدولي المؤتمر في مراكش، و أخبره أن نساء الدولة الصحراوية و الحمد لله لم ينجبوا رياضيا أو عالما أو فيلسوفا و لا حتى رئيسا كامل الأوصاف…، و أن أعقد تركيبة صحراوية توصلت لها مختبراتنا المتنقلة في الشعاب هي وصفة “الزريك” التي يطفأ بها اللاجئون لهيب الحر بالمخيمات.
و إن كانت منصة المقارنات لا تتحمل أن نضع القضية الصحراوية مع قضية عراق “صدام حسين” و أسلحته المحرمة…، لكن ثمة هوامش تسمح بوضع الإسقاط، ذلك أن بيانات الدك و القصف المركز و القصف الكثيف و الرجم و الرشق و العمليات النوعية و الانتصارات الميدانية… التي تذيعها قيادتنا الصحراوية على منصاتها الإعلامية، تشبه إلى حد بعيد المدرسة الشرقية التي نهل منها “الصحاف” و ما كان يقوم به الإعلام العراقي، الذي بث ذات خبر حكاية فلاح أسقط فخر الصناعة الأمريكية المروحية الهجومية “اباتشي” ببندقية صيد، و أصابها و هي فوق السحاب بنيران بندقيته اليدوية التي تخطئ الخنازير على بعد أمتار من أنف القناص…
ظل ذلك العراقي الشهم بطلا أمامنا لأسابيع إلى أن حكى مساعد قائد المروحية قصة الطيار الذي نجح رغم العطب التقني في إنزال المروحية ببراعة داخل حقل زراعي، و كذلك اليوم هُم مقاتلونا الذين يبثون لنا صورا من أرض المعارك قرب المحبس، يجلسون ضاحكين أمام فناجين الشاي متحديين الشيطان “يعني”، و بجانبهم حجارة اللعب و امرأة ترفع المعنويات و تشحذ الهمم، و قد خلدت بنادقهم للراحة…، كي نقتنع أن العدو هرب أمامهم و أنهم حرروا أخيرا مكانا لإيقاد نارهم و إعداد الشاي.
و نحن نعيش خدعة قيادتنا في حديث الصور، و نسمح لها أن تضللنا و نقبل روايتها بأن الأمور تسير على أحسن حال في تلك الحرب التي لا صدى لها خارج الفايسبوك، يفاجئنا الإعلام الأوروبي و ينقل في بث حي ندوات صحفية لوزراء خارجية الدول المشاركة في المؤتمر بمراكش، و الذين جاؤوا لأجل التوافق على خطة لتدمير” داعش”، لنكتشف أنهم يوقعون بالخمسة على خطة تدمير القضية الصحراوية، يعترفون تباعا للرباط بسيادتها المزعومة على الصحراء الغربية، و يدعمون مقترحها للحكم الذاتي و كأن وزير خارجيتهم “ناصر بوريطة” أعمى بصيرة الحاضرين بسحر عظيم، و يقودهم بالتسلسل للوقوف أمام الكاميرات و الشهادة أن لا مالك للصحراء غير الرباط.
دولة هولندا التي قلنا أنها عمق ألمانيا و أن تحالفهما يتبنى ذات المواقف دائما، أعلنت أنها تدعم الحكم الذاتي، و جعلتنا نحكم على زيارة “لعمامرة” قبل حوالي الأسبوعين بالفشل الذريع بل و نعتقد بالرجل سوءا، و إيطاليا التي تبنت عقيدة الإسبان في كل شيء، حصلت على صفقة الغاز شبه المجاني و على وعد برفع الصبيب المتدفق إلى مؤسساتها الإنتاجية، و حصلت على وعد جزائري بأن تكف عنها المهاجرين غير الشرعيين و تحرس سواحلها، و قال الرئيس “تبون” عن الصداقة مع الإيطاليين أنهم الوحيدون الذين نعتبرهم أصدقاء حقيقيون و لم يسبق أن تخلوا عنا، و ذكَّر بمواساة الإعلام الإيطالي للجزائر خلال العشرية السوداء، و بقرض المليار دولار في زمن الفتنة الطائفية بالجزائر…
بعد كل هذه المجاملات و زيارة الرئيس ايطاليا و بعده رئيس الوزراء، أعلن وزير خارجيتها أنه يدعم الحكم الذاتي المقترح من المغرب، نفس العقيدة اعتنقها وزير خارجية دولة تركيا الذي تجاوز دعم المقترح المغربي إلى القول أنه يدعم الوحدة الترابية للمغرب، فيما أعلنت وكالة الأنباء التركية بأن الرباط بالمقابل تدعم تركيا في صراعها مع الأكراد…، و على نفس النهج و بنفس النبرة صرح وزراء خارجية صربيا و قبرص و رومانيا…
نزيف القضية الصحراوية لم يتوقف هنا، بل في الربط الشيطاني الذي قام به “بوريطة” بين الإرهاب و ما أسماه الانفصال، و كيف أقنع المؤتمرين – و هم كبار الدبلوماسيين في دولهم و في العالم- أن دعم الانفصال هو دعم للإرهاب، و المصيبة أن الخطاب الذي قدمه وزير خارجية دولة الإحتلال يجد سنده و مبرره في الحرب التي تتبناها القيادة الصحراوية، و عشرات التهديدات التي تسوقها قيادتنا للشركات العاملة في الصحراء الغربية و التي كان آخرها، تهديد الشركة الأسترالية المكلفة بإنجاز الشطر الثاني من دراسة الأثر البيئي للأنبوب النيجيري – المغربي.
هنا نفتح القوس لنعاتب الحليف الجزائري، الذي ما كان له أن يترك هذا المؤتمر دون مشاركة، و نخبره أن سياسة الكرسي الشاغر ستكلف القضية الصحراوية و جودها، و الدليل أن غياب الجزائر منح الرباط فرصة العمل الدبلوماسي المكثف، و هنا نقدم “سكوب حصري” على هذا الموقع، و نقول أن شهر أكتوبر القادم سيكون شهر تبني الأمم المتحدة و مجلس الأمن بالإجماع لحل الحكم الذاتي كخيار نهائي لمشكل الصحراء الغربية، و أن العربية السعودية تقوم اليوم بوساطة قوية لإقناع الجزائر من أجل فرضه على الصحراويين و إنهاء هذا المسار، و سيكون لنا في مقالات لاحقة تفصيلية في الموضوع…. فماذا ستفعل قيادتنا لو وجدت نفسها في هذا المنعرج؟
لإبداء ارائكم و مقترحاتكم
كما يمنكم متابعتنا عبر صفحتنا على الفايسبوك