بـقـلـم : بن بطوش
يبدو أن الحليف الجزائري فعل كل شيء ممكن لإرضاء إسبانيا و دفعها للتراجع عن موقفها، و أن كل ما اقترحه قصر المرادية في الاتصالات السرية لم يقنع وزير الخارجية “ألباريس”، حتى قالت إحدى التسريبات بأن الجزائر لم يبقى أمامها غير عرض أخير بأن تدفع أجور كل المواطنين الإسبان لنصف قرن… حتى ترضى، لكن الظاهر أن مدريد غير مستعدة لتكرار الأزمة مع الرباط و ترى الأزمة مع بلاد الشهداء أقل تكلفة، بل أن “سانشيز” رد على المبادرات الجزائرية من كل المنابر بأن دعمه لـ “مشروع الحكم الذاتي” هو قرار سيادي- إستراتيجي، و زاد بضغطه على الجراح الصحراوية و وسع الشرخ مع الجزائر، و هو يرد على تجميد معاهدة الصداقة و حسن الجوار بتوقيع اتفاق صداقة مع دولة موريتانيا، التي دخلت في تحالف مع إسبانيا في توقيت غريب، و نحن الذين كنا نمني النفس أن تقف نواكشوط – و لو رمزيا- مع قضيتنا الوطنية و تعلن دعمها للجزائر في الأزمة مع مدريد، لكن بلاد المليون شاعر- و على الطريقة القطرية- حين وقعت الدوحة إتفاقية توريد الغاز لإسبانيا مستغلة الأزمة بين الجارتين، قررت أيضا أن تقفز على الخلاف و تقدم نفسها للإسبان كلاعب بديل في الصداقة الإقليمية، يمكنه ملئ الفراغ العاطفي الذي خلفه الجفاء مع الجزائر… !!
هذا التقارب الموريتاني الإسباني عجلت به مدريد من أجل تعويض الشركات الإسبانية عن السوق الجزائرية، و هذه إهانة مزدوجة للجزائر صمت عنها الإعلام الرسمي في دولة الحليف، إذ ترى إسبانيا أن السوق الموريتانية وحدها تفي بالغرض و تكفي لتعوض الشركات الإسبانية عما خسرته من وقف الاتفاقية مع الجزائر أو ما قد تخسره في المستقبل، و أن القدرة الشرائية في الجزائر ليست بالقوة التي تجعل الاقتصاد الإسباني يخسر المليارات و تعويضها سهل جدا…. لكن الأمر له جانب مشرق، يقول بأن موريتانيا أصبح لها وجود اقتصادي مؤثر و أن اقتصادها نضج للمستوى الذي يجعلها تحوز ثقة المستثمرين الإسبان، و أن القدرة الشرائية في موريتانيا أصبحت تتساوى مع القدرة الشرائية للجزائريين، و أن المستقبل الاقتصادي في بلاد البيضان يعد بالكثير بعد الاكتشافات الغازية الأخيرة، و باعتبارها أيضا دولة عبور للأنبوب النيجيري، و أن الإسبان فضلوا دولة موريتانيا على تونس التي تحولت مع “قيس السعيد” إلى محمية تابعة لقصر المرادية (حسب الإعلام).
صمود إسبانيا في وجه الجزائر لا يمكن شرحه خارج الإطار الأمني، إذ نجد تفسيراته في تحركات كبير الأمنيين لدولة الإحتلال المغربي، الذي يقوم في الأيام الأخيرة بزيارة إلى الولايات المتحدة الأمريكية؛ الدولة الأولى في التصنيف العالمي مخابراتيا و أمنيا و التي تقود الحرب العالمية على الإرهاب، و هذا التحرك خلال الأزمة بين الرباط و مدريد كان يرعب إسبانيا، التي أبدت في أكثر من مرة انزعاجها من الصفقات العسكرية و التقارب الأمني السيبيراني بين الرباط و تل أبيب من جهة، و بين الرباط و واشنطن من جهة ثانية، و الذي جعل برلين تنتبه للتغيرات الإستراتيجية بالمنطقة و تسارع لرأب الصدع مع الرباط، بعد استدعاء دبلوماسية الرباط للسفير عقب طلب ألمانيا اجتماعا عاجلا لمجلس الأمن من أجل مناقشة القرار الأمريكي المتعلق باعتراف واشنطن بسيادة الرباط على الصحراء الغربية.
الأمور لا يمكن فصلها، و نوردها على سبيل التذكير و لدراسة الوضع الراهن، حتى لا نكون مجرد متتبعين لا ينظرون إلا من خلال أعين البيت الأصفر المنهزم…، فوصول “عبداللطيف حموشي”، المدير العام للأمن الوطني و مراقبة التراب الوطني المغربي، إلى واشنطن يتزامن مع زيارة وزير داخلية الرباط لإسبانيا، و أن هذه الزيارات تتم في هدوء و دون بهرجة إعلامية، بمعنى أن الدبلوماسية الأمنية للمحتل كسرت حاجز العمل الأمني التقليدي، الذي يصنع مناعة الدولة إلى العمل الدبلوماسي الذي يصنع علاقات الدولة، ثم أن اللقاءات التي عقدها مدير المخابرات المغربي مع مدراء المخابرات الأمريكية الداخلية FBI ، ثم مدير المخابرات الخارجية CIA، تأتي مباشرة بعد المؤتمر الدولي الذي عقد في مراكش لحشد الدعم ضد الإرهاب، و الذي غابت عنه الجزائر دون مبررات، مما يسمح لنا بتقديم قراءة تقول أن الرباط أصبحت أحد أضلاع الأمن العالمي، و أن النظام المغربي وصل إلى النضج الأمني الكامل و اختمرت تجربته و أصبحت قابلة للتصدير و الاستخدام الناجح و الآمن في نفوذ دول العالم الأول، أي أن الرباط طورت جيلا جديدا من المناعة الأمنية التي تفوقت بها على دول أوروبا، و أن سعي إسبانيا و صبرها على الجفاء مع الجزائر، و تخليها عن دورها التاريخي في الصحراء، و صمتها في قضية ترسيم الحدود البحرية الذي تقوم بها الرباط بكل حرية على مرأى و مسمع من الأمم المتحدة و مجلس الأمن، إن لم نقل بمباركتهما…، يجد تفسيره في أن الإسبان فهموا بأن الرباط لم تعد دولة تقليدية في خططها الأمنية، بل أصبحت تمتلك الذكاء الأمني الذي يمنحها المناعة و النجاعة و يمكنها من التفوق داخل نفوذ أصدقائها و أعدائها، و أن إسبانيا في حاجة ماسة للعمل مع الرباط من أجل حماية المجتمع الإسباني.
و حين نرى الولايات المتحدة الأمريكية و هي توقع مع الرباط اتفاقيات أمنية معقدة، و تستقبل كبير الأمنيين المغاربة، و تطلب من الأجهزة الأمنية للمحتل نقل خبراتهم في الحرب على الإرهاب إلى الخبراء الأمريكيين، فهذا يعني أن الولايات المتحدة الأمريكية بخبرائها و بتفوقها الأمني و التكنولوجي و سطوتها العلمية و إختراقاتها الأفقية و العمودية للمجتمعات العالمية…، تجد صعوبة في فهم الطفرات الإرهابية التي فكت شفرتها الرباط، و تحتاج إلى المساعدة في تحديد التحور الحاصل في الفكر الإرهابي، بل أيضا أن الرباط لها نجاح لم يشر إليه أحد من قبل، يتعلق بانتصاراتها الصامتة في حربها على المد الشيعي الصفوي…
و نحن هنا لا نصفق لعدونا الذي اغتصب أرضنا بل نحذر من تفوقه الإقليمي و الدولي، الذي تجاوز المنطق و وصل به إلى العالمية، و يوشك أن يصيب قضيتنا بلوثة الإرهاب، خصوصا و أن القيادة أرادت الارتجال في حرب الأقصاف الفايسبوكية، و أوكلت شحن الهمم إلى فقهاء التكفير و الجهاد، الذين حركوا القلوب بالتحريض على إزهاق الأرواح في المدن المحتلة، و لكم أن تفهموا كيف تحول المؤتمر الدولي للإرهاب في مراكش إلى مؤتمر لحشد الدعم للرباط و إدانة الجزائر و الدولة الصحراوية.
كل الدول التي تقربت من الرباط من ألمانيا و هولندا و إسبانيا و إسرائيل و الدول الإفريقية و الولايات المتحدة الأمريكية…، يعلمون أن الحرب الأمنية اليوم تدور رحاها حول الوصول إلى المعلومات و أنها حرب إستخباراتية بدرجة أولى، و كل قوة دولية تحاول جمع فريق من التحالفات يضمن لها التفوق، و الرباط أصبحت رقما صعبا في المعادلة الإستخباراتية و لن ننسى كيف سقط الحليف و الدولة الصحراوية و إسبانيا في أزمة “بن بطوش” بالضربة القاضية، و نحن نواجه الرباط التي كشفت كل التفاصيل و أظهر تفوقه على الإسبان التي أصبح لها إستعداد لخسارة كل دول إفريقيا كي تفوز بصداقة الرباط، و الدليل ما قاله اليوم وزير الداخلية الإسباني الذي استقبل وزير الداخلية المغربي، حيث وصف العلاقات مع الرباط بالقول: “المغرب جار إستراتيجي و موثوق به بشكل تام، و نتقاسم معه مصالح مشتركة”،…. و هذا يكفي لشرح التقاطعات و التوازنات و التوافقات الدولية و الأسس التي تبنى عليها التحالفات و المصالح.
لإبداء ارائكم و مقترحاتكم
|
كما يمنكم متابعتنا عبر صفحتنا على الفايسبوك