بـقـلـم : بن بطوش
يقول الكاتب الكبير" نجيب محفوظ" في واحدة من حكمه الخالدة: "أن النباتات لا تمتلك العقل، لكن لو غطيتها بصندوق فيه ثقب، لخرجت من هذا الثقب متتبعة الضوء، فما بالنا لا نتتبع النور و نحن نمتلك العقل...؟ !!"، و كأننا بها حكمة وضعت على مقاس الشعب الصحراوي، الذي حشر في المخيمات و أحكم عليه بصندوق الثورة و مشروع الأجداد، إلى أن آمن بأن البقاء في الصندوق أهون و أفضل من مطاردة خيط الضوء، ليكسر هذا الشعب ما جبلت عليه الخلائق، و يقبل على نفسه البقاء في ظلمات اللجوء، فيما فضل باقي الشعب في الأراضي المحتلة البقاء خارج ذلك الصندوق، إيمانا منه بأن بعض الضوء خير من انعدامه، و أن بعض الكرامة فوق أرض الوطن تحت نير الاحتلال، خير من ذل اللجوء عند الغير و مهانة تسول صدقات العالم...
ذلك أننا في صراعنا مع المحتل المغربي، تسابقت قيادتنا معه على استمالة العالم و صناعة الأحلاف و التخندقات...، فكان ركننا الشديد هو حليفتنا الجزائر الذي لا يعرف نظامها من دبلوماسية الإقناع غير شراء المواقف بحقائب البترو- دولار، التي صنعت فيما مضى عصر القضية الصحراوية الذهبي خلال السبعينات و الثمانينيات من القرن الماضي في زمن الحرب الباردة و صراع المعسكرين الغربي و الشرقي، و أفل هذا العصر مع العشرية الثانية من القرن الحالي، بينما فضل العدو المغربي بناء تحالفاته على منطق مختلف، لا يقدم فيه حقائب بل عقود طويلة الأمد لمنافع مشتركة تجعل من الرباط مركز الطاقة و المال و السياسة و الدبلوماسية، فنضبت خزائن الجزائر و تناقص حلفائنا، و تآكلت المواقف الداعمة لملف قضيتنا، بينما ازدهرت علاقات الرباط و ربت و تنامت، حتى أصبحت مقصد كبار العالم التي إن هي أرادت أن تنال رضا واشنطن فعليها أن تبايع الرباط على الصحراء الغربية.
هذا التقارب الأخير الذي تناقلته وسائل الإعلام الدولية بين مدريد و واشنطن، أثار استغراب جميع العارفين بخبايا العلاقات غير الطبيعية التي تجمع بين حكومة "سانشيز" و الإدارة الأمريكية برئاسة "بايدن"، و جميعنا على إطلاع بالإهانة التي تعرض لها رئيس الحكومة الإسباني خلال قمة الحلف الأطلسي ببروكسيل، حين رفض "بايدن" لقاء "سانشيز" بشكل رسمي و تربص به رئيس الحكومة الإسباني في ممر مركز المؤتمر، و حصل منه على بضع ثواني فقط...، حينها علم الجميع أن إسبانيا أغضبت الولايات المتحدة الأمريكية بعد تفاقم أزمتها مع الرباط، و زاد من تعكير تلك العلاقات قيام أمريكا بتمارين عسكرية بحرية و جوية مشتركة مع جيش الإحتلال المغربي، بالقرب من سواحل جزر الكناري، و دعم واشنطن للرباط في الأمم المتحدة في ملف ترسيم الحدود البحرية الذي ساهم في ضم الجبل الكنز "تروبيك".
فجأة بعد كل ذلك الغضب، يقبل وزير الخارجية الأمريكي ملاقاة نظيره الإسباني، و عوض أن يتحدثا في مصير العلاقات بين الشعبين الأمريكي و الإسباني، أعلنا أنهما سيبدلان كل ما في وسعهما لحل قضية الصحراء الغربية، و نحن نعرف أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تلغي اعترافها المخزي للمحتل المغربي بسيادته على الصحراء الغربية، و أن الدبلوماسية الأمريكية تقدم خدمات كبيرة للموقف المغربي في الأمم المتحدة و مجلس الأمن.
الإعلان المشترك بين وزيري خارجية إسبانيا و الولايات المتحدة الأمريكية يؤكد أن جوهر الخلاف بين مدريد و واشنطن يرتبط بالموقف الأمريكي من الصحراء الغربية و عدم استشارة الأولى للثانية في تلك الخطوة المفاجئة، و أن هناك متغير جعل إسبانيا تتنازل لصالح الولايات المتحدة الأمريكية...، لأن القوة رقم واحد في العالم لا تتنازل عن قراراتها و لا تغير مواقفها، و أن أمريكيا لا مصالح لها كبيرة بإسبانيا، و الدليل نقلها لقاعدتين من إسبانيا باتجاه ايطاليا و شمال المغرب، و هذا ما زاد من إضعاف إسبانيا التي كانت تحتمي بالقوات الأمريكية المشاركة في حلف "الناتو" من جهة، و أيضا كانت تحصل على خدمات إستخباراتية جد متقدمة من القواعد الأمريكية التي ترصد التحركات المشبوهة للأجهزة الأجنبية العاملة فوق الأراضي الإسبانية...، ليأتي السؤال : ما هو المستجد الذي جعل إسبانيا تلجأ لأمريكا و ترضخ مكرهة لشروط الرباط و ما علاقة الروس بالقضية ؟
فقد نشرت جريدة "لارازون" la razon الإسبانية معطيات عن ما يجري من متغيرات دولية، فرضت على الحكومة الإسبانية إصلاح عيوب علاقاتها مع الرباط و التعجيل بربط الاتصال على أعلى مستوى بالإدارة الأمريكية و مراضاتها بأي وسيلة، بعدما فشل الإتحاد الأوروبي في تأسيس جيش موحد لحماية الدول الأوروبية ضد روسيا الغاضبة من نجاح التجربة الديمقراطية الأوكرانية، و دعمها المتواصل لدولة صربيا ضد استقلال كوسوفو، و قصة القرم...، و تزيد الصحيفة بالقول أن الروس أصبحوا ينهجون أساليب أكثر حدة في تعاملهم مع الأوروبيين كاستعمال ورقة الغاز التي جعلت الألمان يلجئون لمصالحة الرباط طمعا في مشروع الأنبوب النيجيري، و أيضا استخدام ورقة دعم الانفصال و تفتيت الأمم كما جاء في تقارير سرية أوروبية عن دعم الأجهزة الروسية للانفصاليين الكطالانيين في إسبانيا بغرض الضغط أكثر على أوروبا...، و هذا الدعم الروسي للانفصال داخل إسبانيا مكن المحتل المغربي من ورقة ضغط مجانية على مدريد دون جهد و دون أن يسعى لها.
صورة وزير الخارجية الأمريكي مع نظيره الإسباني يقول عنها خبير إسباني نشرت نفس الصحيفة حوارا معه، أنها تعكس درجة خطورة الأزمة التي وقعت فيها إسبانيا، أو أوقعت نفسها بها إسبانيا، و ذلك بسبب ابتعادها عن القوة الوحيدة القادرة على ردع النفوذ الروسي، و خلقها أزمات مع حلفاء إستراتيجيين لواشنطن، و أن ذلك التصريح الذي خرج به وزير الخارجية الإسباني في الندوة الصحفية بعد لقائه مع الوزير الأمريكي، كانت الغاية منه طمأنة الرباط بأن الموقف الإسباني أصبح أكثر مرونة في قضية الصحراء الغربية، و أشبه باعتذار عن ردة الفعل و التحركات التي قامت بها إسبانيا غداة الاعتراف الأمريكي، و هو أيضا تصريح يمهد لإعلان مدريدي مفاجئ، أقله دعم إسبانيا لمقترح الحكم الذاتي الذي تضعه الرباط كخيار أوحد لحل الأزمة.
هنا نصل إلى مرحلة وضع الأحكام، و القول بأن جميع الظروف تخدم الرباط، و أن أكبر دولة في المعسكر الشرقي و هي تحاول خدمة مصالحها تقدم الهدايا لهذا المحتل ربما دون قصد...، لكنها منحت الرباط ورقة غالية جدا، تسمح للرباط بإحكام قبضتها على عنق الإسبان، الذين بدوا أكثر طاعة و أكثر ليونة دبلوماسيا، خصوصا خلال الخطاب الأخير لملك إسبانيا أمام سفراء العالم الذين غابت عنهم سفيرة الرباط، و أيضا بعد تقديم المحاكم الإسبانية لتسهيلات من أجل حصول المغاربة على الجنسية الإسبانية، حتى دون توفرهم على شرط النجاح في اختبار التاريخ الإسباني السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي...، صدقوني الرباط تسير نحو حسم الملف، فهل يمتلك "إبراهيم غالي"... الكونطر خطة؟

كما يمنكم متابعتنا عبر صفحتنا على الفايسبوك