بـقـلـم: بن بطوش
عظمت علينا الخطوب حتى ما عدت أعلم أيها أصلح للتقديم على طبق صحفي صباحي قد يزكم الأنفاس و يطفئ الشغف، و أنت أيها القارئ الصحراوي الكريم، أعلم أن لك من مشاعر الخيبة و الوجع ما يغنيك عن وجبة المهانة التي أفردتها قيادتنا لنا و هي تستقبل المبعوث الأممي للصحراء الغربية ، "ستيفان دي مستورا"، بحشد شعبي تتطاير منه الزغاريد و الهتافات و الأناشيد و التهاليل...، لكن قدرك أن تحصل عليها، ذلك أنه بعد بضع ساعات عن قصف لمسيرات الشيطان "يعني" و التي أنهت حياة تسعة مقاتلين، ضمنهم ستة صحراويين و ثلاثة فنيين من الجزائر، إثر استهداف جوي لقافلة عسكرية مموهة تحمل تجهيزات رصد متطورة، فلم ينفعها تطورها و لا تمويهها، و قصفت من فوق السحاب دون رحمة...
هذا الاستقبال يشرح أن ثمة عبث عظيم داخل دواليب القيادة الصحراوية، و أن أيادي غير مجهولة تحاول ذبح ثكلى الشعب الصحراوي مرتين؛ الأولى بإرسال فلذات أكبادهم إلى الموت الحتمي في "الأرضي المحرمة"، حيث نزّاعة الأرواح تترصد من فوق السحاب، و الثانية بعدم احترام حزنهم و مصيبتهم، و حشد الأهالي على الطرقات للعزف و الزغاريد إحتفاءا بزيارة من فشل في الحل حتى قبل أن يبدأ... فهذا الرجل "دي مستورا" الذي أرسل إلينا و في حقيبته و رقة واحدة خط عليها مقترح واحد و أوحد لا ثاني له، هو "مقترح الحكم الذاتي"...
مشاهد الأطفال و المقاتلين و النساء و الأعلام الصحراوية و الجزائرية على جنبات الطريق و الجميع يترصد طلعة المبعوث الأممي البهية، تشعرنا بالخزي و الخجل، و كأننا نتوج هذا الرجل بالنجاح الذي غاب عنه و عن المنظمة التي يشتغل لحسابها...، كانت طقوس استقباله خادشة لحياء الشعب الصحراوي الذي لم يشيع بعد مقاتليه و لم يواريهم الثرى، و هنا وجب منا السؤال: كيف استطاع أهلنا في ولاية السمارة الاحتفال بتلك البشاعة و تلك النذالة؟ و كيف أن قيادتنا قبل بضعة أيام وزعت على هواتف اللاجئين الصحراويين منشور "الاقتصاد نصف المعيشة"، ثم أنفقت على استقبال رجل فاشل كل الاقتصاد و المعيشة التي كانت ستكفي الشعب الصحراوي لأسابيع طويلة، و كانت لتغنيهم عن التقشف و الزهد؟ !!
نبدأ في فهم جولة "دي مستورا" الذي حل بالرباط على متن طائرة إسبانية، و كما هو التقليد في الزيارات التي قام بها جميع المبعوثين الأمميين، و هي عادة دأبت عليها مدريد التي تريد البقاء على مسافة حذرة من هذا النزاع، فهي تسعى للحفاظ على مستوى معقول و منطقي من الخلاف بقدر المستطاع، حتى تظل الرباط منشغلة عن الثغور و الجزر و لا تلتفت للمطالبة بهم...، و أيضا مدريد لا تريد خلافا بين الأطراف يصل إلى مرحلة الحرب الشاملة على الحدود المغربية – الجزائرية، تزيد من هموم التنمية و الهجرة على سواحل الإتحاد القديم...، لهذا تريد إسبانيا البقاء على مسافة حذرة دون أن تتورط في الملف، فيما تفضل فرنسا تحريك خيوط المبعوث الأممي عن بعد...، والموقف الفرنسي جسدته جدارية لرسام صحراوي تناقلتها الصفحات على مواقع التواصل تظهر المبعوث الأممي و قد ظهر منه هيكله العظمي و يتكئ على عصى في إشارة إلى شيخوخة "دي ميستورا"، فيما ربطت قدمه إلى وتد بسلسلة عليها قفل يحمل العلم الفرنسي؛ تلك الجدارية أظهرت أن الفنان الصحراوي أكثر فهما من قياديينا للصراع.
مع وصول "دي مستورا" للرباط، التقته دبلوماسية المحتل بحقيبة عملية، دون استقبال شعبي، و لم يأخذوا الرجل في نزهة إلى المؤسسات و المنتجات، و لم نره يمشي على بساط الاستقبال الفخم، و لم نشهد الأطفال و النساء يهتفن لوصوله... بدا و كأنه نكرة في دولة تزدحم بالمواعيد و الأحداث المهمة، و كل ما تناقله الإعلام الدولي عن زيارته للرباط كانت جلسة عمل جمعته مع وزير الخارجية "بوريطة" و السفير بالأمم المتحدة " عمر هلال"، و قدما له خارطة الوساطة التي عليها مقترحهم الأوحد (الحكم الذاتي)، و جرى تسريب بعض المعطيات التي تقول أنهما تركا بعض الهوامش للمبعوث الأممي كي يضيف لمسته على المقترح، و تكون نوعا من التنازل الذي تقدمه الرباط للشعب الصحراوي، و كأن نظام الرباط يتمنى أن ترفض قيادتنا الصحراوية و معها الجزائر كل المقترحات بما فيها الحكم الذاتي، على اعتبار أن المحتل يرى أن ملف الصحراء الغربية في وضعه الحالي جيد لتصوراته، و أن المحور الأخير العالق الآن و على "دي مستورا" حله، هو مصير اللاجئين الصحراويين، و أن لهذا تم تنصيب الرجل في هذه الوساطة، و أن كل الموائد القادمة ستكون لأجل إجلاء اللاجئين عن المخيمات و ليس الاستقلال.
بعدها حل الرجل بالمخيمات، و خصص له استقبال غير مسبوق، ظنا من قيادتنا أنها ستدغدغ عواطفه و ستؤثر في قراراته و ستنتزع منه موقفا عاطفيا لصالح الدولة الصحراوية كما فعلت مع "بان كيمون" و "روس"، لمجرد أنها وضعت الأطفال و النساء و الكهول، بوجوههم التي أتلفها حر لحمادة و غبارها و صقيعها، على جوانب الطرقات يهتفون له بالسداد و يؤيدون وساطته، و خصصت له قيادتنا برنامجا فخما لا ندري كم كلف الدولة الصحراوية المتقشفة، فالتقى بعضو الأمانة الوطنية و كبير المفاوضين الصحراويين "خطري أدوه" إلى جانب رئيس أركان الدفاع الصحراوي و السفير الصحراوي بالأمم المتحدة.
و من خلال هذا الاستقبال نلاحظ أن القيادة الصحراوية لجأت إلى محاولة تقليد المحتل المغربي الذي اكتفى باستدعاء سفيره في الأمم المتحدة و وزير الخارجية من أجل لقاء "دي ميستورا" الذي لم يستقبل من طرف القصر، و خلال الزيارة التي انتهت بلقاء مع الرئيس الصحراوي "إبراهيم غالي"، تم الإعلان بشكل مفاجئ عن تغيير في البرنامج و الذي أسقط منه رحلة الجزائر، و هنا بدا الأمر مريبا...، لأن الإعلام ربط هذا الإلغاء بأمرين؛ الأول أن الأمم المتحدة استخدمت عبارات خطيرة جدا، قالت أن "دي ميستورا" سينتقل من الرباط إلى مخيمات اللاجئين و منها إلى الجزائر، و كأن منطقة تندوف لا تقع ضمن التراب الجزائري، و نفس الخطأ تكرر في وسائل الإعلام الجزائرية و الصحراوية، حيث نشرت وكالتي الأنباء الصحراوية و الجزائرية أن "دي مستورا" سينتقل من الرباط إلى الدولة الصحراوية و منها إلى الجزائر، مما تسبب في غضب داخل قصر المرادية...و الثاني أن "دي مستورا" كان يحمل ورقة واحدة في حقيبته، و أنه أبلغ "خطري ادوه" و "سيدي محمد عمار" بأن الدول الخمس في مجلس الأمن ترى في الحكم الذاتي الحل الأنسب للقضية، و لا حل في الأفق غيره.
في ختام الزيارة أعلن سفير الدولة الصحراوية لدى الأمم المتحدة "سيدي محمد عمار"، أنه لن يكشف عن فحوى المحادثات التي جرت بين مسؤولي البيت الأصفر و المبعوث الأممي في إحكام لعقد التقليد الأعمى للمحتل، الذي لم يمكن وسائل الإعلام من تفاصيل ما جرى خلال زيارة الرباط و سرب بعض المعطيات الشحيحة تخص مقترح الحكم الذاتي فقط، و قال الممثل الصحراوي بنيويورك خلال ندوته الصحفية، أن هذه الزيارة تأتي في وضع خاص، في إشارة إلى الحرب التي اقتربت بلاغاتها من العدد 500، و أضاف أن: "إرادتنا قوية في إحلال السلام في المنطقة، لكن إرادتنا قوية في التشبث بحقنا غير القابل للتصرف في الحرية والاستقلال التام"،.... و هذا الكلام يعكس حجم الخيبة التي جثمت على قلوب القادة الصحراويين بعد أول لقاء مع المبعوث الأممي الجديد أرسلته الولايات المتحدة الأمريكية و بريطانيا لقطع آخر شرايين الملف.
