بـقـلـم : حـسـام الـصـحـراء
كان كل خوف العرب في الماضي من عدول العلماء عن الحق، لأن الدولة التي ترفع على أكتاف رجال الدين ينفرط عقدها بفساد العلماء، فكانت العرب تقول "العلماء ملح البلد، فمن يصلح الملح إن هو فسد"، و بعد أن انتهت الدولة الدينية مع زوال العثمانيين، أصبح القادة من السياسيين هم أهل العقد و الفسخ، فتم تعويض الفتاوى بالمخططات الخماسية و السداسية و الإيديولوجيات...، و أصبح معها القياس يدفعنا للقول "القادة هم ملح البلد، فمن يصلح الملح إن فَسَد"، و مِلحُنا في المخيمات فسُد كثيرا و بلغت نتانته عنان القلوب، و تعفف منه الأحبة و الأعداء، بعدما زكم مشاعرنا بعفونته، و لم تبرد ناره إلا وهو يجرنا لينهي كل ارتباط لنا مع الأمل، حتى أنه لم يعد لدينا من خيار غير المكوث لعشرات السنين الأخرى في خلاء تندوف نشكو للرحمان قسوة المكان، و ظلم الخيارات التي لم نشرك فيها...
بعد الشهرين و نيف من بيانات الأقصاف و الدك المبارك، الذي صاغت له قيادتنا- الى حدود الساعة- أزيد من 60 بيانا عسكريا، لم نحرر خلالهم شبرا واحدا من الكركرات التي ابتلعها المحتل المغربي في تحرك عسكري بسيط لم يكلفه من الزمن غير ربع ساعة بتوقيت ساعة الأخ "إبراهيم غالي" و التي تضبط عليها كل نكساتنا، و أظنه الأكثر حزنا لفقدانه إلى الأبد كل إمكانية لالتقاط سيلفي جديد على ضفاف شاطئ لكويرة...، بعد كل هذا الزمن و المجهود الإعلامي الخارق لتلفزيون الحليف الجزائري التي أبدع لهذه الحرب من التسميات ما ذكرنا بإبداعات البيت الأصفر التي كانت تطلق على كل سنة لعل أبرزها "سنة الحسم" التي دخل خلالها المحتل المغربي إلى الإتحاد الإفريقي و لولا ألطاف القدر لحسمها لصالحه، و لكانت اليوم قيادتنا تناضل أجل العودة للإتحاد، حيث اختارت القناة الرسمية الجزائرية لهذه الحرب عناوين"الحرب المخفية" و "الحرب المفروضة" و "حرب الإخوة"...، و كلها هذه الأسماء لا ندري إن كانت عن قصد أم اعتباطية رجما بالفوضى، تديننا كدولة صحراوية و كشعب و كحركة و كثوار، لأن رجال الثورة لا يخوضون حروبا في "الخفاء" كالمرتزقة و اللصوص المأجورين، و لا "تفرض" عليهم الحرب خدمة لأجندات لا يعلم أهدافها، بل يختارونها عن ايمان و قناعة بقضية مشروعة، و لا يطعن الثوار "إخوتهم" و لا يفعلون فيهم ما فعله أبناء يعقوب بأخيهم نبي الله "يوسف" الذي تولاّه رب العالمين فمكنه من خزائن أرض مصر و ساقهم إليه صاغرين... و في ذلكم أية لمن أبدع هذه التسميات.
فبيان القيادة الصادر عن الدورة الثالثة العادية للأمانة الوطنية، يدخل ضمن هذه الفوضى الإعلامية، و حتى مكوناته تبدو خارج السياق و فقراته طويلة و كثيرة الحشو، و لا تضم تصورا واضحا لما يقع و ما تراه القيادة خطة للمستقبل، كان مجرد استعراض لغوي، علق عليه المدون الصامد "محمود زيدان" بالقول :"الفقرة الأخيرة من بيان أعلى هيئة قيادية تضمنت المصطلحات التالية : نوتات، معزوفة، لحن، تناغم.. !! صراحة شكيت عنها الرسالة الأخيرة لـ "مايا نصري..." ، يُستهل البيان في فقرته الأولى بالتذكير على أن الحرب هي نتيجة الخرق العسكري السافر لقوات الاحتلال ثم يضيف البيان في نفس الفقرة أن الاجتماع الذي هو مجرد دورة عادية جاء لـ "تدارس كافة المعطيات المتعلقة بكفاح شعبنا في مختلف مناحي الفعل الوطني من أجل إقرار خارطة طريق مستعجلة لحشد كافة الطاقات وتكييف الخطط والبرامج بما يضمن ضبطها على إيقاع الحرب ومتطلباتها".
هذه الصياغة تبدو غريبة في بيان وُجِّهَ للشعب الصحراوي، و يتحدث عن وضع خارطة طريق تشق الأفق المغلق في وجهنا المحبط، لأننا لا نزال لم نستوعب بعد كيف خسر جيشنا في الكركرات دون إطلاق رصاصة واحدة...، و يضيف بيان الدورة التي هي من المفروض عادية و ليست استثنائية أن الخارطة هي مستعجلة للحشد و التكييف مع وضعية الحرب التي لا نراها خارج الفايسبوك، فيما باقي البيان لا يضم خطه بقدر ما أنه استعراض لغوي منقسم بين شرح الدروس التي يقدمها جيشنا الباسل على الجبهات للمحتل الذي ينام جنوده قريري العين خلف جدار يتساوى في السمعة مع سد ذو القرنين، و فقرات عريضة تضم اتهامات تساق للمحتل المغربي و أخرى للمنتظم الدولي...، و عنتريات لو سحبنا بعض عباراتها لصلحت كي تكون مرثية حزينة.
كنا ننتظر في هذا البيان أن تشرح لنا قيادتنا سر إبعادها عن المشاورات التي دارت بين مساعد وزير الخارجية الأمريكي "شنكر" و قصر المرادية، و لماذا صرح صقر البيت الأبيض بأن لا حل في الأفق تقبل به أمريكا و باقي حلفائها خرج الحكم الذاتي الذي اقترحته الرباط؟، و لماذا طار "بوقادوم" إلى جنوب إفريقيا؟ و لماذا قررت جنوب إفريقيا فتح سفارتها أخيرا في الرباط،؟ و هل تمّتَ ما يجب أن يعلمه الشعب الصحراوي و يخشاه...؟ !!!، و كان لنا شوق الإطلاع كرأي عام صحراوي حزين على أن نجد في هذا البيان ما يشفع للقيادة الصحراوية في علاقتها مع الإخوة الموريتانيين الذين تحركوا و لا يزالون يتحركون إلى اليوم، عسكريا في شمال البلاد من أجل مراقبة و إيقاف أي تحرك لجيشنا بالقرب من الزويرات أو المنطقة العسكرية الشمالية المغلقة، و تمنينا أن يشرح لنا البيان الوضع المستقبلي للقضية في قراءة واضحة و صريحة، لما قد تمليه الظروف بسبب التغيرات الجيو-إستراتيجية و بداية انحراف الموقف الإسباني و البريطاني و الألماني لصالح الرباط.
بيان قيادتنا في اجتماع أمانتها العادي، كان ضعيفا و أقل من عادي، بعدما تحولت إلى مفعول بها في السياسة الدولية، و لا يوجعني أن أقول بكل واقعية و تَمَاهٍي مع المعطيات، بأن القيادة أصبحت تتلقى الأوامر مثل الجنود، و أن فراغ البيان أظهر بكل صدق أن البيت الأصفر ليس المسؤول عن قرار إعلان الحرب، و لا عن قرار إيقافها، و أن الحليف الجزائري سحب من قيادتنا كل مفاتيح القضية، و "إبراهيم غالي" اليوم مثله مثل جميع مواطني الدولة الصحراوي و اللاجئين لا يعرف أي مصير ينتظرنا و لا يدري أي قرار سيطلب منا تنفيذه، و المصيبة الأكبر، أن الجزائر ربما كانت تراهن على حرب استنزاف اقتصادية مع المحتل المغربي كي تجعل من اقتصاده يفقد نقاط القوة المتمثلة في الاستثمار، مثلما فقد اقتصاد الجزائر أفضلية هامش الطفرة البترولية بسبب تراجع الطلب و الاستثمار في الطاقات البديلة، لكن يبدو أن المجتمع الدولي أصبح يؤمن بالمملكة المغربية كشريك اقتصادي و هنا مكن الخلل في رؤية قصر المرادية، فهل ندفع نحن الشعب الصحراوي فاتورة هذا العيب؟